زهير فهد الحارثي

بات المشهد الراهن في دول الربيع العربي يعكس حالات التأزم والتخوين والتشدد في المطالب والنزول للشارع وصعوبة تقبل الآراء المخالفة، ومن المألوف أن ترى تلك الجموع تخرج عن النص تارة، وتغرد عن السرب تارة أخرى، فالوضع استثنائي وبالتالي يرى كثيرون أن تُعطى تلك التجربة وقتا أطول لكي تنضج، ونتفهم طبيعة السلوك الإنساني.

هناك من يرى أن الوضع بعد الثورة أفضل بكثير منه قبلها وانه لا محل للمقارنة. وان حالة الاستقطاب السياسي هو أمر طبيعي ونتاج حتمي وصحي للثورة


غير ان من تابع أحداث ثورات الربيع العربي اتضح انها تبلورت باندفاع عفوي فلم تكن هناك قيادة تديرها مما عقد لجمها وقمعها ناهيك عن المفاوضة معها، وهكذا مشهد ضبابي لمسه المتابع لها ما بعد نجاحها حيث لم تستطع تلك البلدان من تجاوز مرحلة تحول ما بعد الثورة. كما رأينا ذلك في ليبيا وتونس ومصر. ومع ذلك فخصائص كل مجتمع تلعب دوراً مهماً في مساره الديمقراطي.

غير ان القلق يدور حول مدى قدرة تلك الدول على تجاوز أزماتها. صحيح ان فترة المخاض والحدث لم تتجاوز أشهراً في بلدان عاشت عقوداً من الاستبداد والفساد ومن الطبيعي أن تحدث ارتدادات عكسية ومعوقات محبطة إلا انه في نهاية المطاف لا يصح إلا الصحيح وهو ما يبعث على التفاؤل بدليل ان ثمة تجارب مشابهة من الحراك الشعبي في أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية في الثلاثة عقود الأخيرة شهدت تحولات ديمقراطية ما نتج عنها إنشاء حكومات ديمقراطية مستقرة.

فعلى سبيل المثال ان الحركات الثورية في أوروبا لم تأت من العدم، بل جاءت كنتيجة لنظريات مفكري عصر الأنوار من فرنسيين وإنجليز. هؤلاء أسسوا لحركة فكرية نقدية في القرن الثامن عشر مهدت لبناء تصور جديد للمجتمع تقوم على الديمقراطية والحرية والمساواة، ونادت بالقطيعة المعرفية وفك الاشتباك بنفوذ الكنيسة والاستناد على العقل وكشف عيوب المجتمع وتناقضاته، وهو ما أدى فعلاً إلى تغيير مسار التاريخ بمقولاتهم، كنظريات جان جاك روسو وجون لوك في العقد الاجتماعي وديفيد هيوم في علم الإنسان مقابل اللاهوت، ونقد فولتير للتعصب الديني والسياسي ودور مونتسكيو في بلورة فكر عقلاني مناهض للأنظمة الاستبدادية.

غير ان الخشية تدور حول نقطة مفصلية ربما قد تعرقل أي تقدم نهضوي للمجتمعات العربية ،ألا وهي الصراع المذهبي والطائفي اللذان استشريا في الجسد العربي. فملف الأقباط في مصر والتوتر السني العلوي الكردي في سوريا، والاحتدام السني الشيعي في العراق ولبنان وغيرها والصراعات القبلية المذهبية في اليمن وخلافات الإسلاميين مع بقية قوى المجتمع في ليبيا وتونس ومصر كلها دلائل على انقسامات عرقية ودينية تعيق التحول الديمقراطي وبالتالي تهديد استقرار تلك الدول.

ومع ذلك فهناك من يرى أن الوضع بعد الثورة أفضل بكثير منه قبلها وانه لا محل للمقارنة. وان حالة الاستقطاب السياسي هو أمر طبيعي ونتاج حتمي وصحي للثورة. ويضربون بنمطي الثورة الفرنسية والروسية اللتين أخذتا وقتاً ليس باليسير من أجل أن تحقق أهدافها وبيان حجم تداعياتها. وفي هذا السياق لا بد من الاعتراف بأن العديد من القراءات لثورات الربيع العربي لم تخل من الحماسة الثورية إن جاز التعبير في محاولة لإضفاء شيء من المثالية أو اليوتوبيا عليها ما يخالف المنهجية العلمية في تحليل هكذا ظواهر مجتمعية.

والبعض الآخر يرتكز على إشكالية إيجاد البديل بعد سقوط النظام حيث يستغرق وقتاً لاتفاق القوى والتيارات على تصور ورؤية واحدة لما بعد سقوط النظام، وهذا صحيح وقد نلمسه الآن في انقسامات المعارضة السورية إلا انه مع ذلك لابد من فهم التمرحلية في مفهوم الثورات وهو تراكم مجتمعي تتضح فيه النوازع الإنسانية على اعتبار ان الانطلاق من زوايا متعددة تؤدي إلى رؤى متصادمة ومع ذلك فهي تستمر في الصراع حتى تستقر بسبب مفهوم التوافق والبحث عما يحقق مصلحة للجميع.

ومع ذلك فالمرحلة الانتقالية متوقع فيها كل شيء وقد يكون فيها شيء من الانقسام والعنف وتسقط هيبة الأمن وتتعطل العملية السياسية وهذا أمر غير مرغوب ولكنه قد يحدث، غير ان القلق ليس في وجود ذلك المناخ وإنما في استمراريته. وهنا يكمن الفرق، لأن الوضع الخطير هو الذي لا يمكن الخروج منه ما يعني عدم وجود إرادة وهناك فقط تدخل البلاد في حرب مفتوحة ومجهولة النتائج.

ولعل الحل الذي يقطع الطريق على الغير هو في وضع دستور يحقق تطلعات شعوبها ويعزز تماسك نسيجها المجتمعي. ومن الطبيعي ان تكون هناك قرارات صعبة ولكن طالما ان المشاركة السياسية قد توفرت فإنها ستقلل من التذمر الشعبي لأن النضج الديموقراطي يأتي تدريجيا مع الممارسة الديمقراطية.

ومع ذلك لن تجدي نفعاً الحكومة التي تفشل في سياساتها العامة من ترديد المبررات المستهلكة وإلقاء اللائمة على مشجب المؤمراة والغرب والعدو، مثلما كانت تفعل الأنظمة السابقة.

وإن كانت التجربة كشفت ضعف الثقافة السياسية وقلة الوعي لدى عدد كبير من الشرائح، إلا أن التغاضي عن الاندفاعات والتجاوزات، بات ضرورة لضمان قطف ثمار الثورة. وان كان التشاؤم لدى البعض حول إمكانية نجاح مرحلة ما بعد الثورة له ما يبرره كونه يأتي بعد سلسلة من إخفاقات التجارب السياسية التي عاشها العرب منذ أن استقلت دولهم في أواسط القرن العشرين.

ولعل السبيل للخروج من هذا النفق المجهول، هو تحمل إفرازات التجربة واستيعابها على اختلاف تجلياتها والمراجعة النقدية لكل ما حدث.فالمطلوب عدم التعجل في الأحكام رغم ما لمسناه من ظواهر سلبية إلا ان الحكمة تستدعي منا التأني بإصدار أحكام استباقية هذا لو أردنا أن نكون موضوعيين..!!