عبد الملك بن أحمد آل الشيخ

خلال النصف الأول من الألفية الأولى، أي منذ أكثر من 1500 عام، كانت الحياة السياسية لأجزاء من أوروبا مسيطرا عليها من قبل جزءين من الإمبراطورية الرومانية: جزء تمركز في النصف الغربي لأوروبا وعاصمته روما، والآخر في الجزء الشرقي منها. وكانت جيوش روما منتشرة خارج حدودها بشكل كبير ومكلف، مما ترتب على هذا التوسع الإمبراطوري المبالغ فيه أن أصبحت الإمبراطورية الرومانية على حافة الإفلاس.

وعند عام 476 ما بعد الميلاد تم السقوط الرسمي لروما، وفي الفترة نفسها كان الجزء الشرقي من أوروبا والذي عرف لاحقا بالإمبراطورية البيزنطية يُظهر ديناميكية أكثر في تطوره العمراني ونموه الاقتصادي، كما نجح نجاحا كبيرا في سياساته الدبلوماسية والأمنية. وبعد سقوط روما استمرت الحضارة البيزنطية في الازدهار لقرون عدة، احتلت خلالها الجزء الغربي من الإمبراطورية الرومانية، واستمرت إلى أن صعدت الدولة العثمانية في القرن الخامس عشر الميلادي.

لقد تم استعراض هذه الخلفية التاريخية ليستوعب القارئ مدى ديناميكية العالم اليوم في قرنه الحادي والعشرين مقارنة بذلك الزمن. فقدرات روما العسكرية وصراعها من أجل البقاء لم يؤثرا على قدرات بيزنطة وطموحاتها، لأن العالم في ذلك الوقت كان عبارة عن جزر معزولة عن بعضها البعض، جغرافيا وسياسيا واقتصاديا، لذا فمصير كل إمبراطورية منهما لم يكن ذا تأثير مباشر أو لحظي على ازدهار الأخرى ونموها.

لكن في عالم القرية الكونية الواحدة، كما نحن عليه اليوم، فإن الوضع الاقتصادي والمالي والعسكري للدول المتقدمة أصبح أكثر اعتمادا على بعضه بعضا. فالعلاقة بين الغرب والشرق اليوم لا يمكن الانفكاك منها، فهي علاقة عضوية، وبإمكانها أن تكون علاقة تعاون على مبدأ تبادل المنافع، أو أن تكون علاقة ذات أضرار مشتركة على كل الأطراف.

لذا فالتحديات المحورية لأميركا أو الدور الجيوسياسي المهم والمطلوب منها في العقود القادمة هو إعادة تجديدها لنفسها، مع تعزيزها ودعمها لغرب قوي حيوي وكبير، وفي الوقت نفسه أن تعمل على تعزيز التوازن مع الشرق، أي الإقرار بالدور الصيني العالمي المتزايد، لتحاشي فوضى كونية في المستقبل.

فمن دون توازن جيوسياسي مستقر في laquo;يوروآسياraquo;، معزز بأميركا جديدة، فإن التعايش الإنساني مهدد بالخطر. وفي حال فشل أميركا في إيجاد رؤية طموحة لعلاقات جيوسياسية عابرة للقارات، فإن ذلك سوف يسهم قطعا في تراجع الغرب وعدم استقرار الشرق. وفي المقابل فإن جهود أميركا في توسيع الدور الغربي بتحويله إلى أكثر مناطق العالم استقرارا وديمقراطية سوف تسهم في دمج القوة مع المبادئ.

إن وجود غرب كبير ومتعاون يمتد من أميركا الشمالية مرورا بأوروبا، ومن ثم إلى laquo;يوروآسياraquo;، مع احتواء كل من روسيا وتركيا، سوف يصل حتما إلى اليابان وكوريا الجنوبية. وهذا الامتداد العريض سوف يعزز من الرغبة لدى الثقافات الأخرى في القبول بالمبادئ الغربية الرئيسية كالديمقراطية، مما سوف يسهم في التبني المتدرج للديمقراطية مستقبلا لدى العديد من تلك الثقافات. وإذا ما استطاعت أميركا والصين أن تتفقا على العديد من المواضيع المختلفة، فإن فرص استقرار آسيا سوف تزداد.

إلا أنه على أميركا أن تأخذ في الاعتبار أيضا أن استقرار آسيا لا يمكن قصره فقط على تعزيز العلاقات مع الصين. فالدور الأميركي الفاعل في الغرب وفي الجزء الشرقي من laquo;يوروآسياraquo; هو أن تقوم أميركا بتبني الدور المزدوج: أي أن تمارس دور المحفز والضامن لدور غربي موسع وموحد، وفي الوقت نفسه تكون الوسيط المتوازن بين القوى الرئيسية المتصارعة في الشرق كاليابان والهند والصين وكوريا.

والدوران مهمان، فكلاهما يحتاج إلى للآخر ليعززه. إلا أن نجاح أميركا في القيام بهذا الدور يتطلب أن تعيد تجديد نفسها من الداخل الأميركي. فعليها أن تركز أكثر على عوامل أخرى للقوة الأميركية، كتشجيع الإبداع والاختراعات وتطوير التعليم والقدرة على توازن القوة الذكية والدبلوماسية، وكذلك الرفع من كفاءة قياداتها السياسية وتعزيز أسلوب الحياة الديمقراطية لديها.

باختصار فإن أهمية الدور الفاعل والحيوي لأميركا في آسيا ليست فقط لتشجيع الاستقرار فيها، ولكن لتهيئة الظروف لنمو علاقات تعاون مع الصين في جو من السلام والتعاون المشترك للوصول معا إلى علاقات ذات شراكة عالمية، سياسية واقتصادية.

فالعالم اليوم يمر بصحوة سياسية غير مسبوقة للبحث عن مستقبل أفضل، إضافة إلى صعود قوى جديدة في الشرق. فالعالم اليوم أكثر تعقيدا من أن يُهيمَن عليه من قبل قوة واحدة، حتى إن كانت هذه القوة هي الأقوى عسكريا في العالم كأميركا.

وبما أن أميركا لم تصبح بَعدُ روما، والصين لم تصبح بَعدُ بيزنطة، لذا فإن استقرار العالم يعتمد كليا على قدرة أميركا على تجديد نفسها، وأن تقوم بالدور الحكيم المحفز والضامن لغرب أفضل ومتجدد، إضافة إلى قيامها بلعب دور الوسيط المتوازن في شرق صاعد.

تلكم كانت قراءة في كتاب laquo;رؤية استراتيجية: أميركا وأزمة القوة العالميةraquo; (Strategic Vision:. America and the Crisis of global Power)، لزبيغنيو بريجنسكي (Zbigniew Brzezinski)، مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق في عهد الرئيس جيمي كارتر، والصادر هذا العام 2012 باللغة الإنجليزية.

ومن أهم الوقفات التي تستحق أن نقف عندها نحن العرب والمسلمين في قراءتنا للكتاب، أننا وعلى الرغم من امتلاكنا للثروات الطبيعية الهائلة والمواقع الاستراتيجية المهمة، وأعدادنا السكانية الكبيرة، فإن ذلك لم يشفع لنا لنكون لاعبا رئيسيا في التفكير الاستراتيجي الغربي في نظرته المستقبلية للعالم، ولا أن تكون قضايانا المصيرية جزءا من ذلك التفكير على الرغم مما ذكره الكاتب، في أسطر قليلة وعلى استحياء، من ضرورة إيجاد حل للنزاع العربي - الإسرائيلي لضمان بقاء إسرائيل. فهل نحن نعيش على هامش العالم والتاريخ؟ وإذا كان الأمر كذلك تُرى ما هي الأسباب؟