سليمان جودة

كانت عمان ولا تزال، أكثر شجاعة من القاهرة، في التعامل مع ملف مفخخ بطبيعته، هو ملف الدعم الذي تقدمه الحكومات في البلدين، منذ سنوات، لعدد من السلع بوجه عام، ولمشتقات الطاقة بشكل خاص، وكانت عمان ولا تزال أيضا، أكثر قدرة من القاهرة، على قطع خطوات واجبة في هذا الطريق، إذ ليس سرا، أن حكومة هشام قنديل، تتفاوض منذ جاءت في 8 أغسطس (آب) الماضي، مع صندوق النقد الدولي، من أجل الحصول على قرض قيمته 4.8 مليار دولار، وربما يكون الاتفاق مع الصندوق، قد جرى توقيعه بين الطرفين، عندما ترى هذه السطور النور، وليس سرا، في المقابل، أن حكومة عبد الله النسور، في الأردن، تتفاوض هي الأخرى، منذ فترة، على قرض مع الصندوق، قيمته 2.6 مليار دولار.

الحكومتان، إذن، في حاجة إلى قرض خارجي، لسد عجز قائم في الميزانية العامة للدولة في البلدين، وهو عجز معلن، وليس خفيا، وقد وصل في مصر، إلى 168 مليار جنيه مصري، في موازنة 2011 - 2012 وتخطط الحكومة لئلا يزيد في الموازنة الحالية (2012 - 2013) عن 135 مليارا.

وحين سألت الدكتور أشرف العربي، وزير التخطيط والتعاون الدولي، في حكومة قنديل، خلال لقاء على قناة laquo;دريمraquo; الفضائية المصرية، عن طبيعة هذا العجز، وعن السبيل إلى مواجهته، راح يشرحه بطريقة تقربه أكثر إلى عقول أبسط الناس، فقال إن حكومته أقرب ما تكون إلى رب أسرة يصل دخله شهريا إلى 400 جنيه، وتبلغ مصاريفه في إجمالها 550 جنيها في الشهر نفسه، وبالتالي، فهو أمام عجز قيمته 150 جنيها، وهو في الوقت ذاته أمام ثلاثة طرق لمواجهة هذا العجز في موازنته الشهرية كرب أسرة: إما أن يبحث عن عمل إضافي يزيد به دخله، وإما أن يفتش عن بنود في إنفاقه لا لزوم لها، فيحذفها، وإما أن يستدين، ليواجه هذه الأعباء الزائدة، والمتمثلة في المائة وخمسين جنيها.

طبعا.. كان تقديري ولا يزال، أن الحكومة في القاهرة، ربما تكون قد بدأت العمل على البدائل الثلاثة معا بشكل يجعلها تتوازى مع بعضها بعضا، وهو الحاصل فعلا لمن يتابع التفاصيل الدقيقة لخريطة العمل التي تمضي عليها حكومة قنديل، يوما بعد يوم، غير أن المشكلة، أن الواصل للناس، أو للرأي العام عموما، أنها لا تكاد تعمل إلا على البديل الثالث فقط، الذي يبدأ بالاستدانة من الصندوق، وينتهي به..!

وإذا كان هناك خلل، أدى إلى وصول انطباعات عن البديل الثالث، وحده، إلى قطاعات من الجماهير، وعدم وصولها عن البديلين الآخرين، فالمسؤولية في ذلك، تقع في الحقيقة، على الحكومة، وليس على مواطنيها.

وعندما قرر عبد الله النسور، الأسبوع الماضي، رفع دعم حكومته، عن مشتقات الطاقة، كان هشام قنديل، يقدم رجلا، ويؤخر أخرى، ولا يكاد يجرؤ على اتخاذ قرار مماثل، إلى أن أعلن، في الأسبوع نفسه، عن وجود نية لدى حكومته، لتأجيل خطوة كهذه، إلى وقت لاحق، لم يحدده، ولا أحد يعرف، كيف يمكن أن يصل إلى اتفاق مع الصندوق، في وقت يظل هذا هو حاله فيه، بين التردد تارة، والتأجيل تارة أخرى، لخطوة لا بد منها.

وقد كان الشيء اللافت للنظر، أن رئيس الوزراء النسور، لم يمتلك الشجاعة على اتخاذ القرار فقط، وإنما امتلك شجاعة الدفاع عن القرار، وشجاعة التمسك به، وعدم التراجع عنه، على الرغم من احتجاجات عنيفة شهدها الأردن، في أكثر من مدينة.

قال الرجل، في لقاء مع ممثلي وسائل إعلام ووكالات أنباء، في أعقاب اتخاذ القرار، إنه هو المسؤول عنه، وليس الملك، ولا جهاز المخابرات الذي كان قد حذره، ابتداء، من عواقب اتخاذ القرار، في هذا التوقيت.

أضاف النسور، وهو يتحدث إلى الإعلام أن المخابرات الأردنية حذرته فعلا، من واقع تقارير ميدانية وصلتها، ولكنه، باعتباره رئيس الحكومة المسؤول، رأى أن يتخذ قراره، وأن يتمسك به حتى النهاية، لأنه يرى أن تداعيات التراجع عنه، تظل أسوأ من مضاعفات اتخاذه، والإبقاء عليه.

ولا بد أننا نذكر جيدا، أن حكومة ممدوح سالم، أيام الرئيس السادات، كانت قد اتخذت عام 1977 قرارا شبيها بقرار النسور في عام 2012 وحين اندلعت مظاهرات 18 و19 يناير 77 الشهيرة، فإنها تراجعت عن القرار في يومها، وقد كان السيئ في الأمر، أنها تراجعت تحت ضغط الشارع عن قرار جرى اتخاذه، وكان الأسوأ، أن جميع الحكومات التي تعاقبت على مصر، منذ ذلك التاريخ، إلى اليوم، ترددت في الاقتراب من هذا الملف، وكانت كلما جاءت حكومة جديدة، أزاحته عن طريقها إلى التي بعدها، حتى وصل إلى حكومة هشام قنديل فكان ما كان منها.

وإذا كان laquo;النسورraquo; قد وصف تداعيات التراجع عن القرار، بأنها أسوأ من عواقب اتخاذه، فهذا laquo;الأسوأraquo; الذي يقصده، هو بالضبط ما حدث في القاهرة، على مدى الفترة الممتدة من 1977 إلى 2012 عندما راحت مديونيات الحكومة الداخلية والخارجية، تتزايد، وتتضاعف، بسبب عدم قدرتها على حسم هذا الملف، حتى بلغ الدين المحلي وحده، أكثر من تريليون جنيه، أي رقم واحد وأمامه 12 صفرا!

وبطبيعة الحال، فإن من حق المواطن، خصوصا في هذه البلاد العربية التي يمثل الدعم نزيفا مستمرا في اقتصادها، أن يحيا حياة آدمية، وأن يكون الحصول على السلع الأساسية، في مقدوره، كمواطن محدود الدخل، وقد ثبت بالتجربة في مصر، والأردن، وتونس، بشكل أخص، أن الدعم السلعي ليس هو الوسيلة الأنسب، للوصول بالمواطن الفقير، إلى هذا المستوى الآدمي من الحياة، ثم ثبت، في الوقت ذاته، أن الوسيلة الأنسب، هي أن تضع كل دولة برنامجا زمنيا يناسب ظروفها، بحيث يستطيع المواطنون المعنيون بمساعدة الدولة، عند نهايته كبرنامج محدد، الوصول إلى مستوى من الدخل، يجعلهم قادرين على الحصول على السلع الأساسية بأسعارها الحقيقية، دون دعم، ولا يحزنون!

أعود إلى عبد الله النسور لأقول إنه وهو يتحدث إلى وسائل الإعلام، لمح إلى أن المساعدات الاقتصادية الدولية والعربية التي ينتظرها الأردن، laquo;قد لا تصلraquo; ولم يوضح لماذا من المحتمل ألا تصل!

وإذا كان فريق من إخوان الأردن، قد راح يصطاد في الماء العكر، ويحرض المدرسين على الإضراب العام من خلال نقابة المعلمين التي يسيطر عليها الإخوان هناك، فإن الدول العربية المعنية بمساعدة الأردن، عليها أن تبادر وتسارع إلى إعانته، حتى تستطيع حكومته أن تتجاوز هذه المرحلة، من ناحية، وحتى يمكن قطع الطريق على التحريض الإخواني، من ناحية أخرى، إذ لا يزال سلوك الإخوان المسلمين، في أكثر من بلد عربي، يشير إلى أنهم دعاة هدم لا بناء دول، على الرغم من مساحة التفاؤل الكبيرة التي استقبلتهم بها الجماهير، عند بدء laquo;الربيع العربيraquo;.. وهو تفاؤل ما كاد يقوم، حتى راح يتبدد لحظة بعد لحظة!