سعود كابلي


إسرائيل الخاسر الأكبر من الربيع العربي، والدولة الأكثر تخبطا مما يحدث في محيطها، لن تنهار بين يوم وليلة، لكنها بالتأكيد ما عادت تلك الدولة القادرة على إسقاط قوتها على محيطها

استكمالا لمقال الأسبوع الماضي quot;هل إسرائيل بهذه القوةquot; تجدر الإشارة إلى أن الانطباع العربي العام بقوة اللوبي اليهودي الأميركي يختزل كثيرا من التفاصيل التي تعطي صورة أكثر لطبيعة العلاقة بين الدولتين، وحقيقة المتحكم الرئيس فيها. ويظهر هذا الأمر بوضوح أكثر عندما تدخل علاقة الدولتين في نفق تضاد المصالح، وهو ما تشهده العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة اليوم بعد تضييق إسرائيل لهامش مناورتها السياسية في المنطقة على العكس من الولايات المتحدة التي تسعى لتوسيعه؛ إنفاذا لمصالحها القومية بعد الربيع العربي. أميركا هي سيدة إسرائيل وليس العكس، وإسرائيل التي تعتمد وجوديا على الولايات المتحدة، تواجه أكبر تهديد لها اليوم من الولايات المتحدة قبل الجميع، وهو ما يمثل فرصة ذهبية للعرب في مواجهة إسرائيل اليوم.
رياح التغيير بخصوص إسرائيل في الولايات المتحدة تأتي على صعيد الناخب الأميركي، ففي دراسة الباحث شبلي تلحمي للرأي العام الأميركي بخصوص قضايا الشرق الأوسط، وجد أن ٥٥٪ من الأميركيين يعتقدون أن الولايات المتحدة ستكون أسوأ وضعا إستراتيجيا إذا هاجمت إسرائيل إيران، وكذلك يعتقد ٥٣٪ أن الولايات المتحدة يجب أن تقف على الحياد، إذا ما هاجمت إسرائيل إيران، وهذا يعكس تغيرا في المزاج العام الأميركي تجاه الدعم غير المحدود لإسرائيل الذي صبغ طبيعة علاقة أميركا بهم.
هذا التغير لا يقف عند حدود الناخب غير اليهودي، فما كشفته الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة هي أن الناخب الأميركي اليهودي يضع مصالحه كمواطن أميركي قبل ديانته. ٩٠٪ يرون أن الوضع الداخلي الأميركي أهم من إسرائيل، وهو ما انعكس في نسبة تصويت الكتلة اليهودية الأميركية للديموقراطيين، والتي تبلغ تاريخيا حوالي ٧٠٪ من الصوت اليهودي، هذا على الرغم من معارضة أوباما الواضحة لسياسات نتنياهو، وعلى الرغم من دعم نتنياهو العلني لرومني ودعوته لليهود الأميركيين للتصويت له خلال زيارته قبيل الانتخابات.
دايف ليندورف في مقال بمجلة quot;كاونتر بنشquot; بتاريخ 16/ 11/ 2012 أشار إلى أن آيباك (اللوبي الإسرائيلي) تلقى ضربة موجعة خلال هذه الانتخابات كشفت عن بداية ضعف تأثيره السياسي، وربما مقابل تأثير اللوبي اليهودي الصاعد quot;جاي ستريتquot; الأكثر ميلا لليسار والمؤيد لعملية السلام. وهو ما اتضح في انتخابات الكونجرس المرافقة للانتخابات الرئاسية وخسارة مرشحين quot;صهيونيينquot; أمثال المرشح الجمهوري للكونجرس عن ولاية فلوريدا آلان ويست، الذي وصف حل الدولتين بأنه quot;كارثة سياسيةquot; أو جو ليبرمان.
خسارة رومني جاءت مع دعم الآيباك له، رجل الأعمال الأميركي المؤيد بشدة للصهيونية شلدون آدلسون وحده تبرع لحملة رومني بـ 100 مليون دولار. فرانكلين لام Franklin Lamb في مقال له بعنوان quot;آيباك: عميلة إسرائيل تشعر بالضغطquot; أشار إلى المشكلة المالية التي تعانيها منظمة آيباك جراء نقص التمويل، وخاصة من اليهود الأميركيين، الذين بدؤوا بالإحجام عن ذلك، وهو ما عرقل جهود المنظمة في دعم مرشحي الكونجرس المؤيدين لهم. طبقا له فإن جوناثان ميسنر مدير الشؤون الوطنية والتطوير بالمنظمة بعث برسالة بتاريخ ٢٤/٩/٢٠١٢ إلى ٥٠٠ ألف شخص يحثهم على التبرع للمنظمة من أجل دعم رومني ومواجهة التهديد الذي يمثله أوباما لدولة إسرائيل. لكن التهديد الحقيقي والقادم لدولة إسرائيل، كما أشار له الكاتب الأميركي اليهودي بيتر بينارت في كتابه quot;مأزق الصهيونيةquot; Crisis of Zionism سيأتي من الشباب اليهود الليبراليين في أميركا وإسرائيل. بينارت مؤيد للوبي اليهودي الجديد quot;جاي ستريتquot; الذي يقف على خلفية مناقضة لموقف quot;آيباكquot; وبالمثال تنشط اليوم في إسرائيل منظمات شبابية كثيرة تمثل تهديدا لإسرائيل فقط من خلال تبنيها لمبادئ الديموقراطية وحقوق الإنسان مثل quot;كتلة السلامquot; (جوش شالوم) وغيرها.
إسرائيل تواجه اليوم رأيا عالميا متصاعدا ضدها، حاييم آسا، كتب في صحيفة quot;معاريفquot; بتاريخ 15/ 11/ 2012 مقالة بعنوان: quot;الفراغ الإستراتيجي الإسرائيليquot; انتقد فيه انحطاط الرؤية الإستراتيجية الإسرائيلية لمستويات متدنية، واعتماد إسرائيل المفرط على الرؤية الأمنية مقابل السياسية الذي شبهه quot;بالروليت الروسيquot;، ومنتقدا تزايد موجة التخوين داخل إسرائيل لكل من يطرح بدائل سياسية للرؤية الإستراتيجية. ورغم ذلك فحتى أمنيا لا تبدو إسرائيل بتلك القوة التي تحاول إظهارها، فاستخدام حماس لصواريخ فجر-5 الإيرانية الصنع والتقنية هو في المقام الأول دليل على ضعف الاستخبارات الإسرائيلية، فكيف وصلت صواريخ طولها 6 أمتار ووزنها 1500 كيلوجرام إلى داخل قطاع غزة دون قدرة إسرائيلية على إيقافها.
الولايات المتحدة التي هي مربط فرس إسرائيل، تقيم الأمور من منظور مصالحها القومية، وهذا ما ظهر جليا فيما يخص المشروع النووي الإيراني، ومحاولات إسرائيل دفع سياسات الولايات المتحدة تجاه هذا الملف بطريقة تخدم مصالحها. تقرير مجموعة الخبراء الشهير بخصوص إيران بعنوان: Weighing the benefits and costs of military action against Iran والذي ضم قائمة من الأسماء الأميركية المهمة (موظفي دولة وأكاديميين ومتخصصين) ومنهم توماس بيكرينج، وزبيغنيو بريجنسكي، والجنرال أنتوني زيني كان بمثابة ضربة لإسرائيل، حيث أفادت خلاصة التقرير أن ضربة إسرائيلية ضد إيران ستقود لحرب شاملة في الشرق الأوسط ليست في مصلحة أميركا.
إلا أن الأهم من ذلك ndash; إن صح ndash; هو مسودة تقرير من 80 صفحة تم الادعاء بتسريب بعض محتواها، وأنها صادرة عن مجتمع الاستخبارات الأميركي US Intelligence Community الذي يضم 16 جهة حكومية (قطاعات الجيش والإف بي آي والسي أي إيه ووزارات الخارجية والمالية والطاقة ويصدر عنها تقرير تقييم الأمن القومي الأميركي السنوي)، وعنوان التقرير المشار له: quot;الاستعداد لشرق أوسط ما بعد إسرائيلquot;Preparing For A Post Israel Middle East وطبقا لما ورد من تغطيات له، فإن التقرير يشير إلى أن إسرائيل باتت تمثل التهديد الرئيس لمصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط والعالم. ورغم أن عددا من المحللين أشار إلى أن هذا الأمر جزء من حرب نفسية، سواء أولئك الذين ادعوا أن التقرير فبركة إسرائيلية للضغط على الناخبين اليهود لصالح رومني، أو أولئك الذين ادعوا أنه فبركة من إدارة أوباما للضغط على إسرائيل، فإن عنوان ومحتوى مثل هذا التقرير في حد ذاته أمر لا يغيب عن ذهن صانع القرار الأميركي، الذي يقف اليوم ليقيم مصالح بلاده بشكل مستقل.
تبدو إسرائيل مع الوقت الخاسر الأكبر من الربيع العربي، والدولة الأكثر تخبطا مما يحدث في محيطها، على الأرجح لن تنهار إسرائيل بين يوم وليلة، لكنها بالتأكيد ما عادت تلك الدولة القادرة على إسقاط قوتها على محيطها. التعامل العربي مع إسرائيل بعد الربيع العربي، يجب أن يكون ذكيا ومبنيا على إستراتيجية عقلانية لا عاطفية. فالملاكم الذكي هو من يتعمد إرهاق خصمه في الحلبة، قبل إنزال الضربة القاضية.
العرب اليوم يملكون حقيبة من الخيارات (قانونيا واقتصاديا وسياسيا)؛ لإحكام مزيد من الخناق على إسرائيل في لحظتها الحرجة هذه. قانونيا، تعد خطوة الأمم المتحدة إن تمت انقلابا هائلا في الوضع الفلسطيني. اقتصاديا، من شأن تصعيد حملة مقاطعة منتجات المستوطنات الإسرائيلية، عالميا أن تزيد من عبء تكلفة الاستيطان على إسرائيل وأضرارها ماليا. سياسيا، لا بد من إعادة النظر جذريا في مسألة تفكك القيادة الفلسطينية، وهو أمر يتعدى مجرد المصالحة بين فتح وحماس، وذلك لإعطاء القضية القوة السياسية التي تحتاجها من داخلها.