عبدالوهاب بدرخان


تحتاج الثورة السورية الى مساهمة الأكراد، وهم يحتاجون الى تفهّم الثورة لمطالبهم. كان الشباب الكرد سبّاقين الى التواصل مع التنسيقيات واعتماد هدف اسقاط النظام، خلافاً للقوى السياسية التي أغرقت نفسها في حسابات كردية - كردية أو كردية - اقليمية وراحت تقيس الى ما لا نهاية احتمالات الاقتراب من/ والابتعاد من النظام تارةً أو المعارضات laquo;العربيةraquo; تارةً اخرى. لم ترضِها تركيبة laquo;المجلس الوطنيraquo; لأنها رأت هيمنة لـ laquo;الإخوان المسلمينraquo; عليها، ولا صيغة laquo;الائتلاف الوطنيraquo; لأنها لا تزال تجد مسحة اسلامية غالبة. وفيما كان أكراد العراق موسوسين بكل ما تُشتمّ منه رائحة laquo;قومية عربيةraquo;، يبدو أن أكراد سورية أضافوا التوجس من كل ما هو laquo;اسلاميraquo; بعدما اتيح لهم أن يتعرّفوا الى البدايات المتعثرة والمقلقة لـ laquo;الاسلام السياسيraquo; في مصر وتونس، لكن تماسهم مع غالبية سوريي الثورة لا بد من أن يوضح لهم حقيقة أنها ليست منتظمة أيديولوجياً، لا في laquo;الأخوَنةraquo; ولا في laquo;التسلّفraquo;، بل إن قسوة النظام ووحشيته دفعتاها الى الاستيعاذ بالله من الشيطان الرجيم.

لعل التشرذم الذي ظهرت عليه المعارضة السورية لم يشجّع الكرد على الاندفاع المتوقع منهم الى مساندة الثورة، أو شكّكهم بإمكان انتصارها، اذ إنهم ذاقوا الأمرّين من ممارسات النظام منذ بدايات تهميشهم والشكّ بولائهم أواخر أربعينات القرن الماضي، مروراً بحقبة حافظ الأسد التي شهدوا فيها أسوأ الانتهاكات لحقوقهم القومية والانسانية (هجمة التعريب، مصادرة الأراضي، نقل السكان العرب لـ laquo;تخليطraquo; مناطقهم، وإحاطتهم بـ laquo;حزام عربيraquo;، والفصل بينهم وبين موطنهم وذويهم عبر الحدود مع تركيا، فضلاً عن حجب الجنسية، وعدم الاعتراف بلغتهم، وحرمانهم من التملّك، واستبعادهم عن أي وظائف...)، وصولاً الى البطش بهم في القامشلي والجزيرة خلال أحداث 2004. غير أن أسباب تشرذم المعارضة laquo;العربيةraquo; تكاد تكون هي نفسها أسباب تشرذم laquo;المعارضة الكرديةraquo;، وتستدعي تفهماً متبادلاً، وصولاً الى تسويات واجبة. فالكرد ليسوا جسماً واحداً وإنْ حاولوا توحيد صفوفهم واستبعاد أي مواجهات بين تنظيماتهم. ومن الواضح أن كردستان العراق باتت قِبلتهم ومثالهم وملاذهم، ففي تموز (يوليو) الماضي كان لاجتماعهم في اربيل، وبرعاية رئيس الاقليم مسعود بارزاني، تأثير حاسم في تحديد استراتيجيتهم للتعامل مع التحوّل السوري. غير أن النفوذ البارزاني على laquo;المجلس الوطني الكرديraquo; لا يشمل laquo;حزب الاتحاد الديموقراطيraquo; المعروف بأنه فرع سوري لـ laquo;حزب العمال الكردستانيraquo; بزعامة عبدالله اوجلان ويعمل بإمرة نظام دمشق.

في كل لقاءات الخارج، مع قادة laquo;المجلس الوطنيraquo; أو مع الهيئات الاخرى المعارضة، فاجأ الأكراد أو صدموا laquo;الجانب العربيraquo;، كما يسمّونه، برفض مبكر لصفة laquo;العروبةraquo; التي أسبغها الآخرون بعفوية الموروث الثقافي على وطنهم السوري المستقبلي. وجد الكرد أن الإصرار على هذه الصفة يحمل كل المخاطر على احتمالات الاعتراف بهويتهم وحقوقهم، ثم حدسوا لاحقاً بأن العروبة المتأسلمة كفيلة بأن تطيح حلم laquo;الدولة الديموقراطية المدنيةraquo; الذي راود كل ثورات الخلاص من الأنظمة المستبدّة. قد يكونون محقّين في مخاوفهم، ولعلهم مبالغون، فكما أنهم يهجسون بـ laquo;عقدة الهويةraquo; التي يولدون ويعيشون معها، كذلك يعاني الآخرون شيئاً من هذه العقدة، فلا يمكن مثلاً إقناعهم بـ laquo;العلمانيةraquo; كما ينادي بعض الكرد. هذا لا ينفي أن كل تجارب الأنظمة القومية أو مدّعية القومية أو ماسخة القومية، بأنماطها الناصرية والبعثية و laquo;القذافيةraquo;، وعلى رغم توافقاتها وأحلافها ومناحراتها، التقت في النهاية على نمط واحد من الحكم التسلّطي - الأمني غير الآبه بحق المواطنة ولا بـ laquo;دولة القانونraquo; ولا بأبسط الحقوق الانسانية. أما ورثتها من الأنظمة المبنية على سرقة انتفاضات الشعوب وامتطائها، فلا تبدو سوى مشاريع لإعادة انتاج الاستبداد تحت العباءة الدينية.

استُهلك وقت طويل في النقاش حول ما يمكن أن يتعهده laquo;عربraquo; سورية لـ laquo;مواطنيهمraquo; الكرد في نظام ما بعد الاسد. كان laquo;تقرير المصيرraquo; ولا يزال عنواناً تختبئ تحته كل النيات الحسنة والسيئة، واقتُرحت له صيغ للتوفيق، وكأن المسألة تقتصر على مجرد عبارات مقبولة في برنامج سياسي أو بيان اعلامي، أو كأن laquo;العربي السوريraquo; مفوّض إذ يُسأل الآن أو مخوّل إعطاء laquo;الكردي السوريraquo; حقوقاً لم يكن له رأي أصلاً في مصادرتها، فكل ما يستطيعانه واقعياً وبنزاهة أن يتوافقا على مبادئ حاكمة لعلاقات مواطنة متساوية بين كل مكوّنات المجتمع، بل لا بدّ من إثبات الاعتراف الدستوري بحقوق الكرد في اطار سورية موحّدة وديموقراطية. لكن النقاش العقيم كان مجرد استكشاف متبادل للنيات، فلم يعرض فيه الكرد طموحاتهم صراحةً سواء كانوا يريدون laquo;حكماً ذاتياًraquo; أو laquo;فيديراليةraquo; وفقاً للنموذج العراقي. وقد اختصر أحد المعارضين laquo;العربraquo; الموقف بقوله: الكرد غير واضحين، وتقديري أنهم يريدون أن نوقّع لهم على وثيقة قبول بانفصال laquo;محافظاتهمraquo;، لا أحد منّا يستطيع ذلك.

وفي الواقع، لم تكن أفضل الصيغ التوافقية لتقنع الأكراد بانخراط أكثر التزاماً بالثورة، لماذا؟ لأن قرارهم الحقيقي كان ولا يزال الحفاظ على أنفسهم وعلى أمنهم وعدم التسبب بتحويل مناطقهم حقول قتال أو أهدافاً سهلة لوحشية النظام. هذا ما فهم من لقاء اربيل الذي توصل الى تخفيف التناقض على الأرض بين أحزاب laquo;المجلس الكرديraquo; و laquo;حزب الاتحادraquo;. لكن هذا النأي بالنفس عن مسار الثورة، وبالأخص بعد انجازاتها العسكرية، تناقض جذرياً مع ما اتّبعه laquo;الاوجلانيونraquo; حين سلّمتهم قوات النظام، في خطوة منسّقة، مناطق كردية حدودية ليباشروا منها في المقابل حربهم الخاصة ضد تركيا، وأيضاً لخلق أسبابٍ للصدام بين مقاتلي هذا الحزب و laquo;الجيش السوري الحرّraquo; في سعيه الى توسيع السيطرة أو تثبيتها. ولو كان الأكراد مساهمين في الثورة، لما برزت تمايزات بين منطقة متاحة لـ laquo;الجيش الحرraquo; أو ممنوعة عليه، ولما حصلت مواجهات دامية في مناطق مختلطة، كما في حلب. لكن الأهم أن النأي بالنفس انطوى على مخاطرتين: اذ أشاع انطباعاً بأن مناطق الكرد باقية مع النظام وغير مرشحة للخروج عن سيطرته، ثم إنه أضعف حجج laquo;المجلس الوطني الكرديraquo; في سعيه الى ضمانات تتعلق بالمستقبل. فكيف لمن لا يساهم في إسقاط النظام أن يفرض مطالبه على النظام التالي. في الأسابيع والأيام الأخيرة تعددت الصدامات laquo;العربية - الكرديةraquo;، ما استوجب تأسيس laquo;الجيش الكردي الحرّraquo; للتنسيق مع laquo;الجيش السوري الحرraquo;، وهذه خطوة لازمة وضرورية بمقدار ما أنها تعني بروز التأثير laquo;العراقيraquo; في الواقع الكردي السوري، وبداية الخروج من laquo;النأي بالنفسraquo; للانتقال الى دور أكثر ديناميكية في مسار إسقاط النظام. أضف أن laquo;الائتلافraquo; الجديد أفرد لهم منصباً قيادياً لم يقرروا إشغاله بعد.

اذا كان أكراد سورية يسترشدون بالنموذج العراقي، فالأكيد أنهم مدركون ريادة أكراد العراق العمل لإسقاط نظام صدّام حسين، انطلاقاً من الاعتراف الدولي بمنطقتهم laquo;الآمنةraquo;، وكيف حددوا مطالبهم وخاضوا حوارات وخصامات مع أطراف المعارضة ومع القوى الدولية قبل أن ينتزعوا الموافقة على laquo;الفيديراليةraquo; التي قادتهم الى وضعية laquo;دولة مستقلّةraquo; تنتظر حسم مصير المناطق المتنازع عليها لإعلان انفصالها. وحين تسأل أوساط المعارضة laquo;العربيةraquo; تأتيك الاجابة بأن الكرد السوريين لم يطرحوا مطالب واضحة بل يدفعون بصيغ غامضة. وحين تسأل أوساطاً كردية تلمس أنهم يعتبرون الوصول الى وضعية كردستان العراق ذاتها طموحاً مشروعاً ومنصفاً لإنهاء الظلم التاريخي الذي أُنزل بهم لدى رسم خرائط laquo;سايكس ndash; بيكوraquo;، إلا أنهم مدركون أن laquo;كردستان سوريةraquo; لا تتمتع حالياً بمقوّمات تؤهلها لأكثر من ادارة ذاتية، وهذه قد تكون مقبولة مبدئياً ضمن لا مركزية ادارية عامة. إلا أنها، باستثناء منطقة الجزيرة المتاخمة لكردستان العراق وشبه laquo;النقيةraquo; إثنياً، عسيرة التطبيق في مجمل المناطق التي يعتبرونها laquo;خاصّتهمraquo; تاريخياً بالنظر الى عدم تواصلها جغرافياً ووجود laquo;جيوب عربيةraquo; كبيرة فيها. أضف أن الهيمنة التي يمارسها laquo;الاوجلانيونraquo; حالياً لا تبدو مساعدة كردياً أو سورياً أو تركياً أو دولياً على تولّي الكرد حكماً ذاتياً حتى لمناطقهم. وسبق للأميركيين أن أكدوا لممثلي اكراد سورية أن لا وعود ولا ضمانات لديهم لتكرار تجربة كردستان العراق في سورية، وأن الأولوية الآن هي لتأمين مرحلة انتقالية إما بتسوية سياسية اذا وافق النظام على التنازلات المطلوبة وإما بالعمل على إسقاطه بتفعيل الانجازات الميدانية للثوار. وفي المرحلة الانتقالية ستضغط اميركا لضمان حقوق جميع الاقليات، بمن فيهم الكرد.