سعيد حارب

يتحدد دور المثقف في تعامله مع المتغيرات الثقافية حوله من خلال دوره في الحياة والمجتمع، فهل ما زال المثقف هو صاحب الدور الريادي؟ قد يبدو هذا السؤال غريباً أو مستبعداً، لكنه واقع يتعامل معه الناس كل يوم بل يعيشه المثقف ذاته كل ساعة متسائلاً عن دوره الذي يستطيع أن يؤديه في ظل المتغيرات من حوله وليست المتغيرات الثقافية إلا واحدة منها، ويذهب في رؤيته لهذا الدور إلى مذهبين يشير أحدهما إلى تراجع دور المثقف وتضاؤله في عالم اليوم، فلم يعد هو صاحب الدور الريادي المحرك للمكنون الثقافي والاجتماعي والسياسي، وصاحب الرؤية الاستشرافية القائدة، إذا أصبح المثقف وفق هذه الرؤية حبيس البيئة التي يعيشها والزمن الذي يمر فيه، بل هو مصاب بالعجز أحياناً، هذا العجز الذي تفرضه عليه الدوائر المقيدة في المجتمعات العربية، وقد دفع ذلك بالمثقف العربي إلى حالة من الإحباط أو اليأس أو العزلة أو الهجرة ليستطيع أن يكتشف ذاته ويحدد دوره تجاه نفسه قبل الآخرين، ويذهب أصحاب هذه الرؤية إلى أن غير ذلك إنما هو وهم يصنعه المثقف ليوهم نفسه أو ليواسيها، وأنه عجز عن فهم الواقع الذي طالما تعامل معه المثقف بتعال ناشئ عن شعور بالتفوق والتميز عن المحيط حوله، وأمام هذه الرؤية لدور المثقف تنطلق رؤية أخرى ترى أن المثقف ما زال أداة الحراك الاجتماعي والثقافي والسياسي، بل هو الدافع الأساس لأي تغيير أو تطور أو تنمية، فهو الذي يبدع ويلعب دوراً في ربط الثقافة بالواقع الفكري، وهو كذلك صاحب laquo;موقف من الحياة وصانع الفكر، ذو الرأي المستقل والعقل الشقي، يشقى بعقله ليوعي الآخرين، إنه المفكر المبدع، الناقد، وقارئ المستقبل، المعبر عن هموم المجتمع وآماله، وبهذه الرؤية ndash;الحماسية- ينطلق أصحاب هذا الرأي مؤكدين على دور المثقف واستمرارية هذا الدور وتميزه بل وتطوره مع المتغيرات التي طرأت على المجتمعات العربية، وأنه القادر على التعامل مع هذه المتغيرات بروح من القدرة الممتلكة لأدوات التعامل في ظل الوعي العميق والفهم الدقيق لما يجري، في حين يتعامل معها الآخرون تعاملاً آنياً أو جزئياً أو محدوداً، لتكون نتيجة هذا التعامل إما رفضاً مطلقاً لهذه المتغيرات بحجة الخصوصية الثقافية أو المحافظة على الهوية أو رفض الآخر، وإما التعامل معها بانسلاخ عن الذات وذوبان في الآخر وتبعية مفرطة، وبين هذا وذاك يبرز دور المثقف الانتقائي الواعي، وبعيداً عن التحمس لأي الاتجاهين في رؤيتهم للمثقف نجد أن الخروج من هذا المأزق يستدعي الإقرار بوجود هذه الاتجاهات والموافقة عليها إذ إن القول بتراجع دور المثقف قول تنقصه الدقة ويجانبه الصواب والذهاب إلى أن المثقف ما زال يعيش تلك الحقبة (الذهبية) قول يحتاج إلى دليل وبيان عليه، فالواقعية تدفعنا إلى الإقرار بدور مستمر للمثقف مع تراجع لهذا الدور مما يدعو إلى طرح رؤية لدور جديد يتعامل فيه المثقف مع الأحداث والمتغيرات من حوله، لكن هذا الدور يتطلب كذلك أن يعيش المثقف حالة المجتمع بل الحياة من حوله، إذ إن ابتعاد المثقف أو عزلته عن الحياة، هذه العزلة الاختيارية التي فرضها على نفسه مرجعها إلى يأس من التغيير أو استعلاء على هموم الناس وقضاياهم، وكلا الأمرين يجعلان أي دور جديد للمثقف محكوما عليه بالفشل لأنه سيصبح دوراً معزولاً كصاحبه، إن بعض المثقفين يشعر أنه كمن laquo;يؤذن في خرابraquo; كما يقول المثل الشعبي، ولذا ينكفئ هذا المثقف على ذاته أو على محيطه المحدود من المثقفين الذين يشاطرونه الهموم والرؤية، ويسلمون المجتمع والناس ndash;بذلك- إلى من يقودهم إما من العامة أمثالهم أو إلى أصحاب الرؤى المفرطة أو المفرّطة، ويكون الخاسر في كلا الحالتين هو المجتمع والثقافة، كما أن عدم التطور بالفكرة التي يعمل لها المثقف العربي جعلت منه مثقفاً laquo;ماضوياًraquo; رغم حداثة الفكرة التي يحملها.

إن كثيراً من المثقفين قد توقف laquo;نموه الفكريraquo; عند الالتزام الحزبي أو الطائفي أو الفكري، أو السياسي، وأصبح رهينةً لتلك الفكرة وغير قابل لتطويرها أو تجديدها، فتجاوزته الأحداث بل الأفكار، ومثل هذا غير قادر أو غير مهيأ ليتعامل مع المتغيرات الثقافية أو السياسية، لقد أصبحت حالة laquo;الالتزامraquo; لدى بعض المثقفين العرب تعني حالة الجمود بل ورفض الآخر في معظم الأحيان، وهذا ما دفع بالحالة الثقافية العربية إلى معترك وصراع فكري مستمر كان الخاسر فيه هو الإنسان العربي، أولاً، والمثقف العربي ثانياً، إذ إن غير القادر على أن يستوعب الآخر القريب، غير قادر على استيعاب الآخر البعيد، ومن لم يستطع أن يتعامل مع الأفكار التي تحيط به في بيئته ومجتمعه لن يستطع أن يتعامل مع الأفكار الجديدة، ومقابل هؤلاء تبرز حالة جديدة لمثقف يتحول مع كل نسمة laquo;فكريةraquo;، فهو عدو لمن صادقه قبل أيام وهو صديق لمن عاداه قبل ساعات، فهو بين الأمر ونقيضه يتقلب، إذ لا تستقر له فكرة ولا يستمر له مبدأ، يدفعه إلى ذلك ضغط المتغيرات وتسارعها من حوله وانبهاره بأفكار الآخرين دون تعامل معها بانتقاء واختيار، وحجته في ذلك التطور والنمو الفكري وعدم الوقوف عند الجمود، ولعل من المتصور استيعاب هذا المبرر لو أنه جاء كحصيلة لنمو تراكمي متنام يبرر تحول صاحبه وتغير أفكاره، لكن laquo;اللامتصورraquo; هو أن يتم هذا التحول من خلال أسباب لا علاقة لها بالتحصيل الفكري التراكمي وإنما تعود لارتباط بالمصالح تارة وبضعف البنية الفكرية والثقافية لدى صاحبها تارة أخرى، إن مثل هذا المثقف لا يستطيع أن يتعامل مع المتغيرات من حوله لأنها ستكون مستوعبة له لا مستوعباً لها، ومن هناك فإن البحث عن المثقف laquo;الأنموذجraquo; أو laquo;الخارق للعادةraquo; لم يعد متصوراً في حالة الثقافة العربية الراهنة، بل المتصور هو ذلك المثقف الذي يتعامل مع المتغيرات من حوله برؤية واقعية تجمع بين الطموح والقدرة والهدف والممكن، ومن هنا نستطيع أن نتصور الدور الجديد للمثقف العربي