حمد الماجد


الشعوب العربية التي اندلعت في بلدانها الثورات والتحولات الكبرى، وحتى الدول العربية الأخرى التي لم تتعرض لعواصف التغيير أو قاومتها بطريقتها، الكل يتملكه قلق مبرر حول مآلات هذه التحولات، هل ستقود إلى استقرار أمني واقتصادي وسياسي؟ أم أنها سترتكس بها في حمأة الفوضى والتخبط الاقتصادي؟ أو على أحسن الأحوال تؤول إلى حالة برزخية من الهشاشة في كل شيء، كالحالة البرزخية التي تعيشها مصر مثلا هذه الأيام؟ ولهذا كان من الطبيعي أن تهتم الشعوب العربية هذه الأيام بتجارب الدول الأخرى، التي تحولت من عالم الاستبداد المطلق إلى عالم الحريات والديمقراطيات، أشبه بالعائلة التي يصاب أحد أفرادها بمرض يستدعي عملية جراحية كبرى عاجلة، تجدها تطلق وابلا من أسئلة لا تتوقف عن مرضى آخرين مروا بنفس التجربة والمعاناة وقررت لهم نفس العملية، فهم يتساءلون عن طبيعة العملية ونسبة الشفاء والأعراض الجانبية للعملية وحال المريض بعدها.

لو فتشنا في الدول العالمية التي تحولت من الاستبداد إلى الحريات السياسية والاقتصادية نجدها على فئات؛ في أميركا اللاتينية مر عدد من دولها، في محاولاتها للتخلص من الاستبداد، بمراحل سجالية مد وجزر، فتستنشق شعوبها نسائم الحريات فترة ثم ما يلبث مستبدوها أن ينقضوا على الديمقراطية الوليدة، ثم تليها ارتدادات نحو الحريات، إلى أن استقرت على نظام ديمقراطي بنكهة يسارية اقتصاديا واجتماعيا، وهناك في أوروبا السابحة في الفلك الأميركي دول ديكتاتورية، مثل البرتغال وإسبانيا واليونان، تأخرت في اللحاق بركب الدول الغربية الأخرى حتى مطلع السبعينات، حيث سقطت حكوماتها الشمولية وحلت محلها ديمقراطيات حقيقية دون مد وجزر، كما في حالة دول أميركا اللاتينية.

وهناك الدول التي تحررت من التبعية للاتحاد السوفياتي أم الأنظمة الاستبدادية وملهمها، مثل دول أوروبا الشرقية؛ بولندا والتشيك وسلوفاكيا ورومانيا ودول البلقان.. إلخ، وهذه أيضا تحولت في الثمانينات من ديكتاتوريات عتيدة إلى ديمقراطية وحرية اقتصادية دون ارتدادات نحو الأنظمة الاستبدادية مرة أخرى، وقريب من هذه الحالات دول في المشرق الآسيوي، مثل الفلبين وتايلاند وسنغافورة، وإن اختلفت عن سابقاتها في مسألة الارتدادات نحو الاستبداد، فهي تشبه ارتدادية دول أميركا اللاتينية، لكنها بالتأكيد أخف بمراحل، واللافت في حال هذه الدول أن أوضاعها الاقتصادية لم يحدث لها تحولات كبرى، ومع ذلك اكتفى الناس باستنشاق عبير الحريات، المهم أن لا يكون حشفا سياسيا وسوء كيلة، وهذا بالذات ما يمكن إسقاطه على واقع دول الربيع العربي، حيث تثبت أن أولى أولويات الناس بعد الحد الأدنى من العيش الحريات.

أما أقرب تجارب دول الاستبداد العالمية لواقع دول الربيع العربي فهي دول تشترك معها في الديانة والانتماء للدول النامية، مثل تركيا وماليزيا، وهذان البلدان تحولا في كل شيء؛ تحولا من الاستبداد للحريات، وتحولا من الاقتصاد المنحدر إلى الاقتصاد المزدهر، وهما النموذجان الأكثر رغبة بالاستنساخ في دول الربيع العربي.

بيت القصيد من هذا كله أن الاستبداد، وإن حظي الناس في أجوائه باستقرار أمني متين، فإن نظام الحريات لا يجلب بالضرورة الفوضى الاقتصادية والأمنية، كما يسوق خصوم الحريات، وإن كان النموذجان الفاشلان للصومال والعراق ما زالا عالقين في الأذهان لترهيب الناس من التغيير، فهناك العشرات من نماذج الدول العالمية، ومنها إسلامية، تحولت من الاستبداد للحريات ونعمت بالاستقرار ولا تزال.