صبحي حديدي

كُتبت هذه السطور قبل أن تظهر نتائج الانتخابات الرئاسية الفرنسية، أي قبل أن يقرّر أكثر من نصف الفرنسيين (كما هو مأمول، وكما تشير استطلاعات الرأي) تشييع الرئيس الحالي نيكولا ساركوزي إلى واحدة من سلال مهملات التاريخ الأردأ سمعة. فهذا الرجل لم يكن الرئيس الأسوأ على امتداد تاريخ الجمهورية الخامسة (النظام السياسي المطبّق في فرنسا، منذ 1958، والذي شهد تعاقب سبعة رؤساء حتى الساعة)، فحسب؛ بل هو الأدنى مرتبة في شأن محدد، يُفترض أنه غالٍ على البلد والشعور الجَمْعي الفرنسي: حقوق الإنسان.
في تموز (يوليو) 2008، أي بعد عام وبضعة أسابيع أعقبت انتخابه، شاء ساركوزي دعوة عدد من رؤوس أنظمة الإستبداد والفساد المتوسطية (بعضمهم لقي مصير سلال مهملات التاريخ ذاتها، مثل حسني مبارك؛ وبعضهم ينتظر، مثل بشار الأسد)، للمشاركة في العرض العسكري الخاص بعيد الثورة الفرنسية، في قلب باريس، بمناسبة مؤتمر الاتحاد المتوسطي كما سارت الذريعة. بعد سنتين، سوف يدعو ساركوزي زعماء أنظمة الاستبداد والفساد الأفريقية، هذه المرّة، للمشاركة في المناسبة ذاتها، بذريعة الاحتفاء بالذكرى الخمسين لاستقلال هذه الدول/ المستعمرات الفرنسية السابقة. وكانت الدعوة تنطوي على مهانة فرنسية مزدوجة للشعوب التي يحكمها، وينهبها، هؤلاء: ليست عاصمة الدولة المستعمِرة، سابقاً، هي المكان الأفضل للاحتفاء بالذكرى الخمسين للإستقلال، من جانب أوّل؛ وليس في هذا التوقيت بالذات، حين تحتفل فرنسا بذكرى سقوط واحد من أبغض رموز الاستبداد: سجن الباستيل.
غير أنّ اليمين الحاكم في فرنسا شاء، من جانبه، إضافة بُعد آخر على المهانة المزدوجة تلك، حين أقرّت الجمعية الوطنية، برلمان فرنسا، مشروع قانون يحظر على المحاكم الفرنسية قبول دعاوى ضدّ مجرمي الحرب، إلا إذا كانوا يحملون الجنسية الفرنسية، أو كانت الجرائم المنسوبة إليهم قد ارتُكبت على الأراضي الفرنسية. وذاك القانون يظلّ مخزياً حقاً، ويشكّل ارتداداً صريحاً وفاضحاً عن تشريعات فرنسية سابقة، كما يتناقض مع القوانين المعمول بها في معظم الدول الأوروبية. ومن المأساوي أن تكون فرنسا، بلد حقوق الإنسان كما يحلو لأبنائها أن يتفاخروا، هي الملاذ الآمن لأصناف شتى من الطغاة والقتلة والجلادين ومصاصي دماء الشعوب.
وإذْ شدّد جان ـ كريستوف روفان، السفير الفرنسي السابق لدى السنغال، في حديث مع صحيفة الـ'موند'، على حنين بعض المسؤولين الفرنسيين إلى عقود الاستعمار القديم، وتعطشهم إلى إدامة صيغة أعلى من الهيمنة على مقدّرات أفريقيا، ضمن ما يُعرف بسياسة 'فرنسأفريقيا' Fran'Afrique؛ فإنه يؤكد أنّ كلود غيان (السكرتير العام لقصر الإليزيه، وزير الداخلية الحالي، واجهة اليمين المتشدد لحملة ساركوزي الانتخابية...)، كان مهندس تلك الاحتفالية الأفرو ـ فرنسية. ولا يرتدي التفصيل صفة المصادفة العابرة إذا تذكّر المرء أنّ غيان كان الصديق الصدوق للنظام السوري، ليس في عهد ساركوزي الرئيس، فحسب؛ بل منذ أن تولى الأخير حقيبة الداخلية، وكان غيان مدير مكتبه، في ذروة غضبة الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك على بشار الأسد، بعد اغتيال رفيق الحريري!
والمفارقة أن تلك المبادرات، وسواها، كانت تُطرح في حقبة شهدت انحسار النفوذ الفرنسي، السياسي والاقتصادي والعسكري والثقافي في أفريقيا الفرنكفونية؛ كما شهدت انكماش فرنسا ذاتها، على ذاتها، نحو إجراءات رجعية، ومرتدة بمعنى ما، ضدّ مكاسب اجتماعية جوهرية، أسبغت على الدوام صفة فريدة على ما يُعرف باسم 'الاستثناء الفرنسي'. كان ساركوزي يتشدّق بالانفتاح، مجدداً، على المستعمرات السابقة؛ وفي الآن ذاته كانت شعبيته لدى الرأي العام الفرنسي، في مختلف شرائحه الاجتماعية ومشاربه الإيديولوجية، تتدهور وتضيق وتبلغ حضيضاً غير مسبوق؛ وائتلافه اليميني الحاكم يقرّ واحداً من التشريعات الأشدّ إثارة للنقمة الاجتماعية، أي رفع سنّ التقاعد؛ ويتشاطر، في الجمعية الوطنية، على تشريعات مثل حظر النقاب، وضبط 'اللحم الحلال'، وإعلاء شأن 'الهوية الوطنية' الفرنسية...
وبين أفضل الفزّاعات التي استخدمها ساركوزي، ثمة سلسلة المفاهيم التي تضخّم رهاب الفرنسيّ مثلما تدغدغ نزوعاته القوموية، وكلّ ما يتصل بالقلق حول الهوية (الحجاب، الإسلام، حقّ التصويت للأجانب في الانتخابات البلدية..)؛ وبالذعر من مستقبل غامض أو شبه غامض (الضمان الاجتماعي، دفاتر التوفير، التقاعد...)؛ ثمّ كلّ ما يتصل بالحذر من متغيرات عاتية تأخذ الفرنسي على حين غرّة، وتضعه بين مطرقة الليبرالية البربرية وسندان الليبرالية التكنوقراطية على حدّ تعبير بيير بورديو، عالم الاجتماع الكبير الراحل. ومنذ أحداث عام 1968 (التي طوت صفحة الديغولية، ولم يكن غريباً أن يدعو ساركوزي إلى 'تصفيتها'، دون حياء من المحتوى الجلف غير الديمقرطي لفكرة التصفية)، ومغازلة اليمين المتطرف.
وفي علم النحو الفرنسي ثمة صيغة فعلية تُدعى 'الزمن الماضي الناقص'، أغرت بعض المفكرين بأن ينقلوها من فقه اللغة إلى فقه الحياة اليومية، فلم يجدوا صعوبة كبيرة في وصف الحاضر الفرنسي بأنه زمن ماضٍ ناقص، انتقص من تراث فرنسا المنير الوضاء، لصالح تراثها المظلم القاتم. ولعلّ خسارة ساركوزي سوف تعيد بعض التوازن على هذا الاختلال، ولكنها بالتأكيد سوف تشكّل انتكاسة لعدد كبير من طغاة العالم، وظغاتنا نحن العرب؛ أكثر من سوانا، ربما، وعلى نقيض ممّا تقول علائم السطح!