خالد الدخيل


يمثل اسم الخليج الذي يفصل الجزيرة العربية عن إيران، وتطل عليه سبع دول عربية، بالنسبة للقيادة الإيرانية قضية تعتبرها موضوعاً ليس فقط للاختلاف مع العرب، بل وللصراع معهم أيضاً. دول مجلس التعاون، رغم قناعتها بالتسمية العربية للخليج، تتفادى في خطابها الرسمي والعلني ما قد يؤجج القضية. أما القيادات الإيرانية فتصر على تأجيج هذه القضية بمناسبة ومن دون مناسبة. فهي لا تكتفي بالتمسك بالتسمية الفارسية للخليج في خطاباتها ووثائقها الرسمية، بل تهدد المؤسسات والشركات التي لا تلتزم بهذه التسمية في وثائقها الرسمية. وآخر المواقف الإيرانية في هذا الصدد الانتقاد الشديد الذي وجهته إيران لشركة غوغل (محرك البحث) بسبب حذف اسم laquo;الخليج الفارسيraquo; من خرائطها الرسمية، بحسب موقع laquo;الجزيرة نتraquo;.

إصرار إيران على تأجيج قضية التسمية هذه لافت لناحيتين: الأولى، أن إيران تعتبر نفسها دولة إسلامية، وهو ما يقتضي أن تكون المعايير الإسلامية مرجعية لمواقفها وسياساتها تجاه دول إسلامية أخرى. لكن إصرارها وبعنف على التسمية الفارسية للخليج يتناقض مع ذلك، لأنها تستند في هذا إلى موروث، ومرجعية قومية سابقة على الإسلام، وإيران تؤكد بذلك على أنها دولة قومية قبل أن تكون دولة إسلامية، وهذا حق لها وللشعب الإيراني، لكنه حق يستدعي التخلي عن توظيف الشعارات الإسلامية. الأمر الثاني اللافت في الموقف الإيراني، أنه ينطلق من مغالطة تاريخية مفادها أن لا علاقة للعوامل التاريخية والسياسية بتسمية المواقع الجغرافية، وأن الأسماء القديمة لهذه المواقع لم تتغير، ويجب أن تبقى كذلك مهما تغيرت الأحوال السياسية والظروف.

ترتكز المجادلة الإيرانية على فكرة وحيدة، وهي أن تسمية الخليج بـlaquo;الفارسيraquo; هي تسمية قديمة، وأنها يجب أن تبقى كذلك. وهذه مجادلة صحيحة، لكنها ليست دقيقة، فضلاً عن أنها تستند إلى مغالطة تاريخية، فمع أن اسم laquo;الخليج الفارسيraquo; كان الأشهر قديماً، إلا أن له أسماءً أخرى، والأهم من ذلك أن أسماء المواقع الجغرافية لم تكن يوماً واحدة وثابتة، وإنما تتغير تبعاً لتغير الظروف والمعطيات الاجتماعية والسياسية. وبما أن حديثنا هنا يدور حول laquo;الخليجraquo; سنقتصر على مسميات البحار، وكيف تغيرت أسماؤها بتغير الحقب التاريخية. وسنعتمد في ذلك على مقارنة الأسماء المتداولة حالياً لبعض البحار، والمعترف بها من المراجع الدولية والعلمية، بالأسماء التي كانت تعرف بها هذه البحار في التاريخ القديم. وسنأخذ الأسماء القديمة لهذه البحار بشكل أساسي من مقدمة ابن خلدون، وذلك لسبب بسيط. أولاً: أن ابن خلدون كتب مقدمته في القرن 8هـ/14م، وبالتالي فموقفه لا علاقة له بالجدال الدائر حالياً بين العرب والإيرانيين. ثانياً: أن مقدمة ابن خلدون تعتبر من أهم وأوثق النصوص التاريخية، وهي في ذلك تعتبر من أكثر النصوص التزاماً بالمنهج العلمي وفقاً لمعطيات الزمن الذي كتبت فيه. فماذا يقول هذا المؤرخ العربي عن هذا الموضوع، وبخاصة عن اسم الخليج، موضوع الجدال الحالي؟

أول ما يذكره ابن خلدون في مقدمته الثانية ما يسميه بـlaquo;قسط العمران من الأرضraquo;. ومن البحار يذكر laquo;البحر المحيط، ويسمى أيضاً laquo;لبلايةraquo; بتفخيم اللام الثانية، ويسمى أوقيانوس، أسماء أعجمية، ويقال له البحر الأخضر والأسودraquo;. (ج1، ص340). يقول بعد ذلك، laquo;وذكروا (يعود الضمير إلى الجغرافيين القدامى مثل بطليموس) أن هذا البحر المحيط يخرج منه من جهة المغرب .. البحر الرومي المعروفraquo;. (ص342). هكذا كان هذا البحر يعرف في القرن الـ14م. ومن أسمائه أيضاً laquo;بحر الرومraquo;. يقول ابن خلدون في إشارة لافتة إلى أن هذا البحر كان يسمى بـlaquo;البحر الشاميraquo;، نظراً لأن منطقة الشام تقع على ساحله الجنوبي. والأرجح أن هذه التسمية لم تكن متداولة إلا على ذلك الساحل، مقابل اسم laquo;البحر الرومي أو بحر الرومraquo;. وlaquo;الرومraquo; هو الاسم الذي كان يطلقه العرب على الأوروبيين نسبة إلى روما. وكان العرب يسمون هذا البحر بالرومي رغم أنه يقع على جانبيه في وقت ابن خلدون laquo;أمم من الروم والترك وبرجان والروسraquo;. في وقتنا الحالي يعرف laquo;البحر الروميraquo; أو بحر laquo;الرومraquo; بـlaquo;البحر الأبيض المتوسطraquo;.

ويواصل ابن خلدون وصفه للبحر الأبيض، فيقول: laquo;والبحر الثاني من خليجي هذا البحر الرومي هو بحر البنادقةraquo;. يقول محقق المقدمة، علي عبدالواحد وافي، بأن laquo;بحر البنادقة هذا هو بحر laquo;الأدرياتيكraquo;، نسبة إلى شعوب البنادقة التي تنسب إليها مدينة البندقية، أو فينيسياraquo;. (ص343). أما المحيط الهندي فكان يعرف زمن ابن خلدون بأسماء عدة، هي laquo;البحر الصيني والهندي والحبشيraquo;. والبحر الأحمر الذي يحد الجزيرة العربية من الغرب فكان يعرف باسم آخر، هو laquo;بحر القلزمraquo;. يقول ابن خلدون أنه يخرج من البحر الحبشي laquo;بحران آخران أحدهما يخرج من نهايته عند باب المندب، فيبدأ متضايقاً ثم يمر مستبحراً إلى ناحية الشمال ومغرباً قليلاً إلى أن ينتهي إلى مدينة القلزم ...raquo;. والقلزم بحسب المحقق laquo;بلدة ساحلية بجوار السويسraquo;. ويضيف ابن خلدون عن هذا البحر بأنه laquo;يسمى بحر القلزم وبحر السويسraquo;. (ص344). أي أنه كانت لهذا البحر ثلاثة أسماء، الأحمر، والقلزم، والسويس، والأول هو المعروف والمعتمد حالياً.

يأتي ابن خلدون بعد ذلك إلى الممر البحري الذي يهمنا، أو البحر الثاني الذي يخرج من البحر الحبشي، كما في الاستشهاد السابق. يقول ابن خلدون إن هذا البحر كان يعرف باسم laquo;الخليج الأخضرraquo;. وكان له اسم آخر كما يبدو من استطراد صاحب المقدمة حين يقول: laquo;يخرج ما بين بلاد السند والأحقاف من اليمن، ويمر إلى ناحية الشمال مغرباً قليلاً إلى أن ينتهي إلى الإبلة من سواحل البصرة ... ويسمى بحر فارسraquo;. (ص 345). ويلاحظ هنا أن ابن خلدون استخدم مرة كلمة laquo;بحرraquo;، وأخرى laquo;خليجraquo;، لكنه أتبع كليهما بالصفة الفارسية، مما يعني أن الصفة الفارسية لهذا الخليج كانت هي الشائعة في زمنه، وأنه لم يكن لهذا الخليج اسم واحد في كتب التاريخ والبلدان. كذلك استخدم ابن حوقل في laquo;صورة الأرضraquo;، وياقوت الحموي في laquo;معجم البلدانraquo; اسم laquo;بحر فارسraquo; للتعريف بالخليج نفسه. وهذا هو الخليج العربي أو الفارسي، كما يسمى حالياً. من ناحيته، يشير جواد علي في laquo;تاريخ العرب قبل الإسلامraquo; إلى أنه كانت لهذا الخليج أسماء مختلفة عند قدماء أهل العراق، مثل laquo;البحر الجنوبيraquo; و laquo;البحر الأسفلraquo; و laquo;البحر التحتانيraquo; (لأنه يقع في الجنوب مقابل الشمال المرتفع) و laquo;البحر الذي تشرق منه الشمسraquo; (لأنه يقع في الشرق). كذلك من أسمائه laquo;البحر المرraquo; و laquo;البحر المالحraquo;. (ج1، ص140-141).

نستنتج من ذلك ثلاثة أشياء: الأول، أنه ليس هناك اسم واحد ثابت للمواقع الجغرافية، بل كانت لها أسماء مختلفة. ثانياً، أن الأسماء القديمة الشائعة للمواقع الجغرافية ليست دليلاً على صحة الاسم، أو مبرراً لبقائه عبر الدهور، بل هي أسماء تتغير مع الزمن تبعاً لتغير الظروف والمعطيات السياسية والتاريخية، مثلما حصل للبحر الأحمر والمحيط الهادي والمحيط الهندي، وغيرها. ثالثاً، أن التغيرات التي تحصل لأسماء المواقع الجغرافية مرتبطة بالظروف التاريخية والحضارية التي تحيط بها من مرحلة تاريخية لأخرى، والتسمية الفارسية للخليج العربي في القديم مرتبطة بشكل أساسي بأن الدولة الفارسية كانت من بين القوى العظمى آنذاك، وكانت هي القوة الوحيدة المطلة على الخليج، لكن هذا الوضع انقلب رأساً على عقب منذ ظهور الإسلام، وحتى العصر الحديث، فإيران لم تعد دولة عظمى، وانضمت إلى الحضارة الإسلامية، وأصبح هناك الآن سبع دول عربية تطل على الخليج، تحتل إطلالتها أكثر من ثلثي سواحل الخليج، وهي تحولات كبيرة لا تدع مبرراً لتمسك الإخوة الإيرانيين بتسمية تجاوزها التاريخ، وعفّ عليها الزمن.

ومع أن منطق الرئيس الإيراني، أحمدي نجاد، في مقاربته للقضية ينطوي على عنصرية لا تليق، إلا أنه منطق يؤيد التسمية العربية للخليج. فهو ينطلق من أنه laquo;في الماضي لم تكن هناك حضارة سوى الحضارة الإيرانيةraquo;. وهذا صار من الماضي السحيق. الآن تغيرت هذه المعطيات، ومعها تغيرت المرحلة التاريخية. لم تعد إيران الدولة الوحيدة المطلة على الخليج. بل أصبحت تمثل أقلية، جغرافياً وسياسياً، من هذه الناحية. وإذا أخذنا في الاعتبار القبائل العربية التي تقطن السواحل الإيرانية على الخليج، فإن إيران قد تصبح أقلية حتى بالمعنى الديموغرافي. ماذا بقي من مبررات بقاء الاسم القديم لـlaquo;الخليج العربيraquo;؟!