علي جرادات

ldquo;السلطةrdquo; وrdquo;المعارضةrdquo;، مقولتان محوريتان بين مقولات كثيرة أفرزتها ممارسة الحقل السياسي المديدة للمجتمع البشري بهوياته المتنوعة والمتداخلة، وهما على أية حال مقولتان مترابطتان، وللدقة وجهان لمقولة واحدة، حيث لم تنشأ أي منهما أو تتطور، وجوداً وتنظيراً، إلا على صلة أو نسبة إلى الأخرى، فأية ldquo;سلطةrdquo; ldquo;الآنrdquo; وrdquo;هناrdquo; تنطوي على مضارع ldquo;معارضتهاrdquo;، وتحملها في جوفها بذرة لسلطة المستقبل، وهكذا دواليك، كما أن أياً من هاتين المقولتين لم تتحدد، معنىً ومضموناً واشتراطات، دفعة واحدة وإلى الأبد، إنما تتكون وتتحول وتتطور وتغتني، بل، وتنكص وتتراجع وتُحَور أحياناً، تبعاً لتحولات الواقع، ولتنوع المجتمعات البشرية واختلاف مستوى تطورها، فكراً وسياسة واقتصاداً واجتماعاً، لكن في الحالات جميعاً، وفي العصر الحديث تحديداً، وبمعانٍ عدة، وبصورة أعمق، وبشكل مطرد وأسرع، لم يعد هنالك إمكانية، (من دون قليل أو كثير من الاستعمال والتضليل)، للحديث عن معارضة فعلية ومقنعة من دون اقتران اسمها، (مهما أُسبغ عليه من هالات ldquo;التعظيمrdquo; وrdquo;التقديسrdquo;)، ببرنامج مختلف، وممارسة مختلفة، عن برنامج وممارسة السلطة السائدة، وجوهراً حول كيفية توزيع الثروة، واتخاذ القرارات، وصياغة وتعديل شروط العقد الاجتماعي، والنظام السياسي وضوابط العلاقة بين سلطاته وصلاحياتها، وتوليد آليات الرقابة الشعبية والقانونية، بحسبان أن هذه هي القضايا الأساسية للحقل السياسي الذي في صلب فضائه تقع مقولتا السلطة والمعارضة، اللتان ما أن تقدم أي منهما، وبمعزل عن اسمها وتبريراتها، على إغلاق هذا الفضاء وحرية التنافس الديمقراطي السلمي البرنامجي فيه حتى يصبح مجتمعهما السياسي والمدني في أزمة احتكار نخبة بعينها للسلطة، وبالتالي في أزمة الاستبداد الذي يفضي، تقدم الأمر أم تأخر، إلى الثورة عليه، باعتبار أن الاستبداد والثورة أيضاً مقولتان مترابطتان، وجوداً وتنظيراً .

وهذا هو بالضبط، (أعني احتكار السلطة)، ما ساد مجتمعات الأقطار العربية، وشكل السمة الأساسية لنظام الحكم فيها، وإن بتفاوت بين قُطْرٍ وآخر، على مدار عقود خلت، وهو بالضبط، وبصورة أساسية، أيضاً، ما أدى إلى انفجار الانتفاضات الشعبية العربية، بعد طول اعتمال، كانفجار كانت قد أشرت على احتمال وقوعه هبّات شعبية عدة أُخْمِدَ لهيبها بخيار الحلول الأمنية، بل والعسكرية أحياناً، ما زاد التناقض تفاقماً واستعصاءً، وأحبط إمكان حله بخيار الإصلاحات التدريجية المتراكمة، التي كان يمكن لها أن تحول دون انفجاره، أو على الأقل تحول دون أن يأتي مدوياً وقابلاً لكل أشكال التدخلات الخارجية المعادية .

هنا، ولأن كل ثورة أو انتفاضة شعبية هي في التحليل الأخير عملية نقدٍ ونقضٍ شاملة، تطال أول ما تطال عملية احتكار السلطة، برنامجاً وممارسة، بصرف النظر عن الجهة التي تقوم بها، فقد كان من الطبيعي ألا تطال نيران الانتفاضات الشعبية العربية أنظمة الحكم السائدة فقط، بل ونظام المعارضين لها أيضاً، خاصة أن هؤلاء جميعاً ليسوا مَن أطلق هذه الانتفاضات أو قادها، فيما أتهِمَ البعض منهم، (وليس جزافاً)، بالتأخر عن اللحاق بركبها، بل، وبالمساومة على أهدافها في أكثر من محطة حاسمة من محطاتها . وفي هذا تكمن واحدة من الإنجازات غير المنظورة للانتفاضات العربية التي بمجرد اندلاعها انفتح الباب واسعاً أمام تطوير الكثير من المقولات في الحقل السياسي العربي وإعطائها معانيها الحديثة والمعاصرة، وبينها مقولة المعارضة، التي لم يعد بمقدور أي كان ركوب موجتها، (من دون اتهام)، بمجرد اختلاف اسمه عن السلطة السائدة المراد إطاحتها، وليس باختلاف ما يقدمه من برنامج، كما لم يعد بمقدور أي كان ركوب موجة الديمقراطية، (من دون طعنٍ)، بمجرد رفع شعارها مهما كان صاخباً، وليس بممارستها على الأرض، وكذا فإنه لم يعد بمقدور أي كان ركوب موجة التغيير، (من دون مساءلة)، بمجرد رفع شعاره مهما كان براقاً، وليس بدفعِ حركته إلى الأمام قدماً، وكذلك فإنه لم يعد بمقدور أي كان ركوب موجة شعارات القضايا الوطنية والقومية، وأولاها القضية الفلسطينية، (من دون تدقيق)، بمجرد التشدق بها، وليس بترجمة هذه الشعارات في مواقف ملموسة تبرهن على الرفض الفعلي لكل أشكال التبعية والتدخل الخارجي في شؤون السيادة والاستقلال الوطنيين، وعلى الاستعداد الحقيقي لتحمل مسؤوليات الدفاع عن القضايا القومية وتبعاتها .

لقد فتحت الانتفاضات العربية أبواب الحقل السياسي العربي ونوافذه المغلقة لعقود بقفل احتكار السلطة من قبل نخبٍ بعينها، أطيح بعضها، ما جعل جدارة ldquo;المعارضاتrdquo; الساعية للحلول محل هذه النخب على المحك من حيث فهمها لمعنى المعارضة والديمقراطية والتغيير .

لكن يبدو أن بعضاً من هذه ldquo;المعارضاتrdquo;، وبالذات ldquo;معارضاتrdquo; الإسلام السياسي، وحركة ldquo;الإخوان المسلمينrdquo; على نحو أخص، لم تستوعب الدرس الأساس لاندلاع الانتفاضات الشعبية، حيث أغواها ما أحرزته من فوز انتخابي باسم انتفاضات شعوبها في أكثر من قُطْرٍ عربي، خاصة في مصر، وظنت أن بمقدورها احتكار السلطة وإعادة عجلة المجتمع السياسي والمدني العربي بعامة، والمصري بخاصة، إلى الوراء، ليتضح أن رفْعها للواء الديمقراطية والتغيير قبل بلوغ السلطة، كان مجرد استعمال سياسي فئوي انتهازي، نجحت في تمريره، وقفزت عبره إلى السلطة، لكن ما غاب عن بالها، وعن بال تيارها ldquo;الصقريrdquo; تحديداً، هو أن ضمان الاحتفاظ بالسلطة، فما بالك بضمان تجديدها، يبقى موضع شكٍ، خاصة بعد أن بات سلوكها تجاه الانتفاضات الشعبية مجالاً للنقد من جميع القوى الفكرية والسياسية والمجتمعية، بينها الحركات الشبابية التي أشعلت شرارات الفعل الانتفاضي الشعبي العربي، بل، وبات سلوكها هذا مثالاً ساطعاً على كيفية الاستعمال السياسي الفئوي الانتهازي لمقولات المعارضة والديمقراطية والتغيير، التي طورتها الانتفاضات الشعبية العربية، ووضعتها على سكة معناها العصري والحديث الذي أظن، (وليس كل الظن إثماً)، أنه هيهات أن يكون بمقدور ldquo;الإخوانrdquo; أو غيرهم، إعادة عجلته إلى الوراء .