إنهاك سوريا ثم إنهاؤها

فيصل القاسم
الشرق القطرية
2012 يتساءل الكثيرون بطريقة لا تخلو من السذاجة أحياناً: لماذا هذه اللامبالاة الدولية تجاه محنة السوريين؟ لماذا هذا التقاعس والتخاذل والمماطلة؟ لماذا يعطي المجتمع الدولي النظام السوري المهلة تلو الأخرى؟ لماذا يرسلون مراقبين لا حول ولا قوة لهم مما يطيل في عذابات الشعب السوري؟ لماذا تتآمر الأسرة الدولية على السوريين وتتركهم وحيدين؟ لماذا لا يتحرك حلف الناتو لإنقاذهم؟ لماذا تختبئ أمريكا والغرب عموماً وراء الفيتو الروسي والصيني اللذين يمكن تجاوزهما بسهولة؟ ألم يقم حلف الناتو بقصف القوات الصربية دون العودة إلى مجلس الأمن، مع العلم أن صربيا كانت جوهرة النفوذ الروسي في البلقان؟ ألم تقم أمريكا وبريطانيا بغزو العراق وإسقاط نظامه رغم الاعتراضات في مجلس الأمن الدولي؟ هذه الأسئلة وغيرها تتكرر يومياً بكثير من السذاجة في الأوساط السياسية والإعلامية والشعبية في أماكن كثيرة.
لا شك أن من حق الجميع أن يتساءل عن هذا البرود الدولي تجاه الوضع في سوريا، وأن يتعجب أيضاً. لكن لو عُرف السبب لبطل العجب. فقبل أن يسأل البعض لماذا لا يسارع الخارج، خاصة الغرب إلى مساعدة الشعب السوري ومؤازرته، لماذا لا يسأل الأسئلة التالية: هل لدى جزء كبير من المنظومة الدولية مصلحة في إيجاد حل سريع للأزمة السورية سلماً أو حرباً؟ هل يتألمون لمعاناة الشعب السوري؟ متى كان الخارج يغار على أي شعب عربي إلا إذا كان له مصلحة؟ ألا تعتبر أمريكا وإسرائيل السوريين مثلاً من أكثر الشعوب العربية معاداة لهما، وبالتالي هل من مصلحتهما إنقاذهم وتحريرهم؟ ألا تعمل بعض القوى الخارجية وفق المثل الإيراني الذي يقول: quot;لا تقتل الأفعى بيدك بل بيد عدوكquot;؟ فبدلاً من التصدي للشعوب التي تعاديك لكسر شوكتها، من الأفضل أن تدع غيرك يقوم بهذه المهمة نيابة عنك كحكوماتها مثلاً دون أن تطلق رصاصة واحدة من جانبك، ثم تجلس تتفرج على المشهد الدموي بارتياح شديد. وحتى لو لم يكن الشعب السوري عدواً تاريخياً لأحد، متى كانت القوى الكبرى تهتم بدماء الشعوب وحقوق الإنسان دون مقابل؟
هل هناك بالنسبة لأعداء سوريا أجمل من أن يروا الجيش السوري يستنزف نفسه في مواجهة الشعب السوري من أقصى الجنوب في درعا إلى أقصى الشمال في إدلب؟ أليسوا سعداء بأن تكون معركة الجيش السوري ضد الشعب الثائر هي أكبر وأوسع وأطول حروبه منذ نشأته؟ ألا تطرب آذانهم عندما يسمعون أن الديزل قد نفد من سوريا، وأن الشعب يعاني من البرد القارس في الشتاء، لأن دبابات الجيش قد استنزفت حتى المخزون الاستراتيجي من الوقود في حربها ضد الثورة؟ هل هناك أجمل من أن يروا الهوة وقد اتسعت بين حماة الديار وأهل الديار؟ ماذا يريد أعداء سوريا أكثر من ذلك؟
أليست إطالة أمد الأزمة السورية إذن مصلحة مشتركة لأعداء سوريا؟ ألم يتوقع أحد الخبراء الاقتصاديين أن تحتاج سوريا إلى خمسة عشر عاماً لتعود إلى الوضع الاقتصادي السيئ الذي كانت عليه قبل اندلاع الثورة؟ وكلما احتدم الصراع بين النظام ومعارضيه أدى ذلك أوتوماتيكيا إلى تدهور الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في البلاد. وكلما زادت نسبة الدم المسفوك طال أمد الصراع بين الشعب والسلطة وتعمق. وربما أدى ذلك إلى ما هو أسوأ، لا سمح الله، ألا وهي الحرب الأهلية التي يمكن أن تحول سوريا إلى عراق أو صومال أو أفغانستان أخرى. هل هناك أجمل من أن يرى أعداء سوريا هذا البلد مدمراً وضعيفاً بدلا من أن يكون حصناً حراً أبياً؟ أليس في دمار سوريا راحة لأعدائها؟ أليس من مصلحة الأعداء أن تنكفئ سوريا على نفسها لعقود، كما حصل للعراق، وأن تنشغل بتضميد جروحها السياسية والشعبية والاجتماعية والاقتصادية إلى ما شاء الله؟ حتى لو أراد أعداء سوريا أن يتدخلوا عسكرياً، أليس من الأفضل لهم أن ينتظروا كي تتدمر البلاد داخلياً، بحيث يدخلونها وهي مستسلمة ومنهارة ومتوسلة لمن ينقذها من كارثتها، كما حصل في العراق من قبل، حيث حاصروه وجوعوه وأنهكوه، ثم غزوه ودمروه؟ أليس كل من يعتقد أن القوى الخارجية مهتمة بإطفاء النار في سوريا واهماً إذن.لا مصلحة لها أبداً في إطفائها، بل في تأجيجها حتى ينهار كل شيء ثم تتدخل بعد خراب مالطا. أكاد أسمع الأعداء يهمسون بالمثل الشعبي: quot;من إيدو الله يزيدوquot;.
يقول نابليون بونابرت:quot; إذا رأيت عدوك يدمر نفسه، فلا تقاطعهquot;. وليس هناك أدنى شك بأن أعداء سوريا يعرفون هذه المقولة جيداً، ويعملون بموجبها بطريقة لا تخطئها عين. وليس كل من قدم لك حبلاً يريد إنقاذك، فقد يريدك أن تشنق نفسك به. ربما قد ظن النظام أن المهل التي يحصل عليها ستمكنه من إعادة عقارب الساعة إلى الوراء دون أن يعلم أنها مجرد إجازة خبيثة للإمعان في تدمير البلاد كي يكون سجله مثقلاً بالجرائم والاتهامات عندما يقرر الآخرون التحرك ضده بحجة انتهاك حقوق الإنسان. فهل انتبه السوريون نظاماً وشعباً ومعارضة إلى لملمة الجروح فوراً، ووقف سفك الدماء، ورأب التصدعات الخطيرة التي أحدثتها الأزمة، والبدء في إعادة بناء البلد وإصلاحه فعلياً، لا ضحكاً على الذقون، على أسس ديمقراطية ترضي الشعب بالدرجة الأولى مهما تطلب ذلك من تضحيات وتنازلات لقطع الطريق على كل الذين لهم مصلحة إستراتيجية في إنهاك سوريا ومن ثم إنهائها؟
quot;شكراً إيرانquot;
احمد عياش
النهار اللبنانية
منذ اندلعت الثورة في سوريا يبرر النظام هناك بطشه بمواجهة quot;الارهابيينquot;. ومنذ نزلت الآلة العسكرية لـquot;حزب اللهquot; في 7 أيار عام 2008 الى شوارع بيروت وصعدت الى مرتفعات جبل لبنان يبرر الحزب الأمر بمواجهة الفتنة الآتية من سعي تيار quot;المستقبلquot; الى فرض معادلة السلاح في مواجهة سلاح الحزب.
ومثلما تتوالى مبررات النظام السوري تتوالى كذلك مبررات quot;حزب اللهquot;، الذي أنجد نفسه هذه السنة بتفاصيل جديدة، أبرزها اعلان نائب الأمين العام الشيخ نعيم قاسم عن 3 آلاف مسلح لـquot;المستقبلquot; تورطوا في احداث أيار قبل 4 أعوام. ثم تلاه الأمين العام السيد حسن نصرالله نفسه في خطاب بالحديث عن quot;استقدام آلاف المقاتلين واكتظاظ بيروت بالمراكز المسلحة والتحضير لخطة عمليات...quot;. ولكن بعد مرور الاعوام الاربعة على تلك الاحداث لم يقدم نصرالله حتى اليوم أي دليل، على رغم انه قال بالامس: quot;لدينا كثير من المعطيات والافلام الوثائقية والمشاهدquot;، اضافة الى ان لديه quot;خطباء كثراً بلغاء وشعراء عديدينquot;. بالتأكيد ان المطلوب دليل وليس خطبة أو قصيدة. وحتى الآن لم يشاهد اللبنانيون ولا يزالون سوى أفلام وثائقية لجيش الحزب يطلق النار ويشعل الحرائق هو وحلفاؤه ويقتلون مدنيين وينشرون الخراب في المؤسسات الخيرية والاعلامية والمساكن.
في البرقيات التي نشرتها الزميلة quot;السفيرquot; نقلاً عن موقع quot;ويكيليكسquot; عن احداث 7 أيار 2008 وفيها quot;الرواية الاميركيةquot; نجد أن تيار quot;المستقبلquot; ومعه سائر أفرقاء 14 آذار غاضبون لأنهم يواجهون وهم عزّل الآلة العسكرية لـquot;حزب اللهquot; ويصبون غضبهم ايضاً على الجيش اللبناني الذي وصف الرئيس أمين الجميّل قائده آنذاك العماد ميشال سليمان (رئيس الجمهورية حالياً) بأنه quot;ناطورquot;، في حين ان سليمان في هذه البرقيات، وصف احداث 7 أيار بأنها quot;هجوم سرطانيquot; لـquot;حزب اللهquot;، وقال: quot;ان الذي يقوم بأعمال ميليشيوية ليس مقاومةquot;، محذراً من quot;ان هذه الاعمال فتحت جبهة جديدة في الصراع السني ndash; الشيعي في الشرق الأوسطquot;.
يردد المطلعون على خبايا quot;اليوم المجيدquot; كما يصف نصرالله احداث أيار تلك، اسرار المسعى القطري الذي دخل على الخط فكان وراء دعوة الجيش الى عدم التدخل لتحضير الحل الذي ولد لاحقاً في العاصمة القطرية ووصف بـquot;اتفاق الدوحةquot;.
يعتقد نصرالله ومن معه ان مرور 4 اعوام على أحداث أيار كافية للنسيان ولفرض رواية آلاف المسلحين. وهو اتكل على النسيان ذاته لتحويل شعار quot;شكراً قطرquot; الى quot;شكراً ايرانquot; لإعادة اعمار الضاحية بعد دمار حرب تموز عام 2006. وعليه فإن السنة المقبلة قد تحمل الينا اطلالة للأمين العام لـquot;حزب اللهquot; يروي فيها انه - أي نصرالله الناشط في المجتمع الأهلي - احبط الفتنة التي دبرها القائد العسكري سعد الحريري!
دمشق الحرائق الدامية
نصري الصايغ
السفير اللبنانية
عندما يصبح القتل سياسة يومية، وعندما يتحول الناس إلى متاريس، وعندما يقلد المقتول القاتل، تدخل laquo;الثورةraquo; في العبث، ويتحول laquo;النظامraquo; إلى ميليشيا ويصير الناس خرافا للذبح.
لا صباحات محايدة في سوريا. لا مساءات دمشقية بعد الآن. لا قدرة على تذوّق ملذات النهار. الوجبة اليومية تبدأ بحصاد عدد القتلى أمس، وانتظارات منسوب الدم طوال الساعات، وقد أثقلت دقائقها بتوقع الفواجع.
ولا وقت أبداً للتفاؤل. وحدهم الشهداء الذين لا نعرف أسماءهم يتجددون على دفعات. شهداء الأمس يتصلون بشهداء اليوم، ويدلون على شهداء الغد. فقط الأسماء تتغير... درعا لا تزال على حالها من القَتْلَين: قتل النظام والقتل المضاد. حمص فرغت من أناس، لم يعودوا إليها بعد... وقد لن... ادلب على قارعة دمها تنزف، ريف دمشق يتوجس، حلب تخاف، جسر الشغور ينتظر، ودمشق تتوقع laquo;باب الحارة الداميةraquo;.
أمس انفجرت دمشق وتوغلت في أدغال العنف.
النظام، بسيرته القديمة، ومساره الجديد، لا جديد فيه. إنه قديم جداً، متمرّس في ممارسة القبضة، مؤمن بفوهات البنادق ولا يخشى المزيد... laquo;الثورةraquo; بسيرتها الجديدة، اغتالتها بنادقها، سقطت في رشوة الانتقام، استدرجت العنف إلى عقر عقلها وقلبها، وزينت شعاراتها بأسماء الله الحسنى وذيّلتها بأسماء القتلى، وباتت laquo;القاعدةraquo; أو من يتشبه بها، مقبرة متنقلة.
من زمان، بعض مَن في لبنان، نبّه السوريين، أشقاءهم في السراء والضراء عن جد، أشقاءهم في laquo;الخبز والملحraquo; بجدارة الوفاء، اخوانهم في مقاومة اسرائيل... من زمان، نبه البعض السوريين: laquo;حذار السلاحraquo;، laquo;احسبوهاraquo;، كي لا تدخلوا نفق laquo;اللبننةraquo;. وها قد دخلت سوريا نفقها، ولا ضوء أبداً في نهاياته المتمادية، ولا قدرة لأحد على أن يتراجع إلى بوابته التي فتحت منذ أكثر من عام.
لم يسمعوا صوت العقل. أفتوا بأن القتل حلال سياسي، لاستبقاء السلطة أو للإطاحة بها.
لا وقت لديك لتنحاز أكثر. المعسكران يخوضان معركة بلا أفق. laquo;الثورةraquo; في أحد أطرافها المتعسكرة، باتت تمارس laquo;الجزارةraquo;. قد يكون اسمها laquo;القاعدةraquo;، أو قد لا يكون هذا لقبها. لكن فعلها من فصيلة laquo;بن لادنraquo;. laquo;الثورةraquo; الناطقة سلماً وتظاهراً نظيفاً، تراجعت، وللنظام يد في ذلك، وللعنف المسلح يدان في ذلك أيضاً.
لا وقت حتى لمواساة أحد، من دون عتب وتأنيب ضمير. تتصل بعلي حيدر، رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي، لتعزيته بمصرع واستشهاد فلذة كبده. تحزن عليه، لأن رصاصاً ملعونا، laquo;مؤمناraquo; بالطبع، قد غدر به وهو أعزل إلا من انتمائه لوطنه ولفلسطين. ثم، تتصل بالمناضل فايز سارة لتسأله عن ولديه، وقد اختطفهما القمع السلطوي من بيتهما، وهما أعزلان إلا من وفاء للوطن وأهله.. وللحرية فيه. وتحار بعد ذلك، ماذا تقول لهما، ولا تجد في جعبتك إلا ما كنت تقوله إبان laquo;المقتلةraquo; الكبرى في لبنان، عندما كان السلاح قد غدا إلها بصورة مسخ. في لبنان، منحوتات خالدة من القتل. والقتل ليس أعمى أبداً: انه يصيب المقتول، والمقتول معروف. والهدف، قتل السياسة ودفن الأماكن. واضح اليوم، ان لا أحد ينتصر.. إلا على حياة الآمنين والأبرياء.
على أن في هذه المقتلة غرابة، لا كلام يتصل بالمأساة. كل الكلام يعقد قرانه فقط على الاتهام. كل طرف يتهم laquo;عدوهraquo;. فلا خصومة عندما يبلغ القتل النحر الجماعي. كل الكلام يتصل بالتوظيف. حتى العالم laquo;الحساسraquo;، لم يذرف دمعة واحدة؟
وحدهم الأهل والأقرباء والأصدقاء يبكون أحباءهم وأولادهم وبناتهم وعجائزهم... وحدهم يتناوبون على أحزان ودموع... وحدهم يعرفون طعم القبضة القاتلة، وقنبلة laquo;الثورةraquo; المقلدة فنون laquo;القاعدةraquo;.
لم تعد تثيرنا التصريحات. لم نعد نصدق أحداً. سوريا وحدها، بلا نظامها، وبلا laquo;ثورتهاraquo; المنزلقة إلى الحتف، تثير فينا الرغبة في الحزن والرغبة في ممارسة الحداد والرغبة في أن نحبها، على أمل أن تترجل عن laquo;صليبraquo; النظام وlaquo;أهلةraquo; laquo;القاعدةraquo;، ومن صَمَت عنها من laquo;الثورةraquo;.
منذ أكثر من ربع قرن كتب زكريا تامر laquo;دمشق الحرائقraquo; هل أرهص بما حدث بالأمس؟