عبده خال


عرف التاريخ الخلاف المذهبي من وقت مبكر، وعرفنا وقرأنا عن علماء نفوا واتهموا في معتقدهم بسبب أفكار تبنوها، وتحمل لنا سجلات التاريخ حروبا لفظية واتهامات كفرية لا حد لها إلا أن خطر تلك الاختلافات الحادة على المجتمعات في ذلك الزمن لم يكن ليفت عضد التعايش السلمي بين أفراد المجتمع لمحدودية الانتشار حيث لم يكن لها من وسيلة للوصول سوى التدوين أو القول الذي ينتهي في مكانه وإن ارتحل مع الركبان وصل متأخرا وربض في ألسنة عدد محدود من الناس وانتهى الأمر عند ذلك الحد.
أما الآن وفي زمن التواصل الاجتماعي انتشر التكفير على مساحات واسعة.
وتفرغ البعض لتوزيع صكوك الكفريات على هذا وذاك من غير تورع أو حيطة لدين أو خلق، هذه الهجمة التكفيرية تتزعمها فئات لا تظهر بوضوح بل تتحرك من خلف أسماء وهمية مستخدمة عدة حسابات من أجل هذا الغرض وكما تم استخدام الشباب سابقا والتغرير بهم بالانخراط في العمليات الإرهابية باسم الجهاد ها هي نفس الأيدي تستخدم شبابا مغررا بهم في توزيع الكفريات على أطياف المجتمع المختلفة على أنه جهاد، وهو جهاد آمن لا يدخل الشاب في مغامرات قد تودي بحياته حيث تقف المهمة عند تلويث سمعة بأن هذا كافر (وهي مهمة سهلة للغاية) وربما يقدم الشاب على هذا من غير إيعاز وإنما تبرعا في كسب الأجر.!!
ويلجأ موزعو الكفر هؤلاء إلى اجتزاء مقولات وعرضها على الناس لإثبات كفريات هذا وانحراف ذاك، وكان الأمر يبدو حمية ودفاعا عن الدين حين يكون المهاجم صاحب رؤى فكرية حادة لكن المساحة اتسعت فلم يعد المهاجم هو ذاك الذي يناضل بأفكار تنويرية لا تخرج عن دائرة الإسلام بل شمل التكفير أناسا أجلاء وشيوخا عرفوا طوال حياتهم بمنافحتهم والذود عن الدين وبلائهم الحسن في نشر تعاليم الدين وتنقيته من الشوائب التي تلصق به، هؤلاء الرجال الأفاضل تحولوا بين ليلة وضحاها إلى كفرة مشكوك في نواياهم ويجب محاربتهم وفضح كفرياتهم على الملأ ..
وكما تحول اختلاف العلماء عند المريدين إلى إجازة مهاجمة كبار علماء الأمة الإسلامية المختلفين مع مشايخهم وتحويل ذلك الخلاف إلى ذريعة لاتهام الناس في دينهم وعقيدتهم، وهو الأسلوب الرخيص المتبع الآن في وسائل التواصل الاجتماعي من غير تدخل العقلاء في بيان خطورة انتشار مثل هذا التكفير الجماعي.
والعجيب أن هؤلاء المريدين أو موزعي الكفر لا يفقهون شيئا يمسكون بطرف الأشياء وينطلقون إلى آخر مدى ومع غياب الوعي لديهم تحضر شتائمهم حضورا لافتا يجعل المرء يخجل أو يتحرز من تصويب أخطاء أولئك المجاهدين بتوزيع صكوك الكفر.
وفي المقابل انبرى المتهمون بالذود عن أنفسهم ودفع تهم الكفر، وتحول الخطاب من خطاب بناء في مختلف مجالات الحياة إلى خطاب (ترميم سمعة) الكل يريد أن لا تلصق به تهمة الكفر، فترك خطابه البناء وانشغل بخطاب التطهير .
ما نعيشه الآن من انساق ثقافية وخطابات (مماحكة) يؤكد أننا لن نفرغ لبناء ذواتنا أو أمتنا ولن ندخل العصر من خلال إنتاج الأفكار التي تؤدي إلى خلق أمة قوية في كل جوانبها، لأن الأفكار تحبس مقابل دفع تهمة الكفر.