فاروق جويدة

بعد كل ما مضي من الأحداث لم يتفق المصريون في يوم من الأيام علي ثورة يوليو وبقيت منطقة خلاف حادة بين فئات المجتمع المختلفة من أهل الفكر والسياسةrlm;..


ولعل السبب في هذا الخلاف ان الثورة قسمت مصر كلها إلي جبهتين.. الجبهة الأولي هي التي استفادت من الثورة وجنت ثمارها.. اما الجبهة الثانية فهي التي دفعت ثمن الثورة من نفوذها واموالها ومصالحها.. هناك الملايين الذين منحتهم الثورة مكاسب اجتماعية وإنسانية لم يحلموا بها يوما ابتداء بمجانية التعليم وتوزيع الأراضي وانتهاء بجيل كامل تصدر العمل الوطني من أبناء العمال والفلاحين والكادحين والبسطاء.. وعلي الوجه الآخر كان ضحايا التأميمات والمصادرة والحراسات وإلغاء الأحزاب السياسية ومطاردة رموز النخبة المصرية في عصرها الذهبي من المفكرين والساسة والكتاب والمبدعين.. وبقدر ما نجحت الثورة في تغيير صورة المجتمع المصري وإنقاذ طبقات إجتماعية كاملة من براثن الفقر والحاجة بقدر ما دمرت طبقة إجتماعية مهما كانت تجاوزاتها أو تحفظاتنا عليها فقد كانت تمثل خط الدفاع الأول عن الوجه الحضاري والثقافي لمصر.. كانت مصر في نهاية الأربعينيات قد وصلت إلي صيغة حضارية وضعتها في مقدمة شعوب المنطقة وبعد ان دمرت الحرب العالمية الثانية اوروبا كان العالم ينظر لمصر علي أنها واحة بديلة لمنظومة حضارية دمرتها الحرب واصبحت مصر مهيأة لأن تأخذ مكانتها في صفوف الدول الآمنة والمستقرة مع درجة من التقدم لم تكن متاحة لغيرها.
كانت هناك مؤشرات كثيرة تدعو للتفاؤل حول مصر المستقبل في نهاية الأربعينيات..
هناك تجربة حزبية وصلت إلي درجة من النضج لا بأس بها تمهد لظهور مجتمع ليبرالي متفتح وواكب ذلك نخبة ثقافية وسياسية علي درجة كبيرة من الوعي والاستنارة..
هناك تجربة اقتصادية مصرية صميمة يمكن ان نقول إنها خرجت من رحم مؤسسات مالية واقتصادية غربية ولكنها حملت خصائص المجتمع المصري ونخبته الجديدة الصاعدة التي تشكلت بعد ثورة19 ودستور23 ومعارك الاستقلال الوطني التي خاضها المصريون ضد الإنجليز.. وهنا ظهرت تجربة طلعت حرب وما واكبها من إنجازات سريعة علي المستوي الإقتصادي والاجتماعي.. هناك دور مصر العربي والإقليمي, خاصة بعد إنشاء جامعة الدول العربية تحت رعاية مصرية ورغم هزيمة الجيوش العربية في فلسطين فإن ظهور الكيان الصهيوني في قلب العالم العربي جعل الدول العربية تتجه إلي مصر الدولة الأكبر والأكثر قدرة علي التعامل مع ما يجري من الأحداث..
كانت الإمبراطورية البريطانية قد وصلت إلي حالة من التراجع والترهل في القوة والدور بعد الحرب العالمية الثانية وظهور امريكا وروسيا كقوتين صاعدتين تغيرت معهما موازين كثيرة وكان هذا يؤكد ان الاحتلال الإنجليزي لمصر لن يبقي طويلا.
كانت هذه هي صورة مصر قبل ثورة يوليو وحين انطلقت حركة الضباط الأحرار كانت هناك ارض خصبة استقبلت هذا الحدث الكبير بترحيب شعبي جارف احتضن الثورة ووقف بجانبها لتكمل مشوارها وهناك تشابه كبير ما بين مصر قبل ثورة يوليو ومصر قبل ثورة يناير..
لو اننا إستعرضنا صورة مصر ما قبل ثورة يناير سوف نكتشف تراجعا شديدا في صورة المجتمع المصري إذا وضعناه في مقارنة موضوعية.. فعلي المستوي السياسي كانت مصر تعيش في ظل تجربة حزبية مزيفة حصل فيها الحزب الوطني علي أغلبية مزورة في انتخابات2010.. وكانت مصر قد عادت مرة أخري إلي مجتمع النصف في المائة حيث تم توزيع الأراضي والمصانع وثروات البلاد علي فئة من الناس ليعود مجتمع النصف في المائة مرة أخري أشد ضراوة وشراسة.. وكانت إنجلترا قبل ثورة يوليو مدينة لمصر بمبلغ450 مليون جنيه استرليني هي ديون الحرب وحين قامت ثورة يناير كانت ديون مصر قد تجاوزت تريليون جنيه وهناك أكثر من40% من المصريين عند حد الفقر وكانت نسبة الأمية قد وصلت إلي30% مع تراجع مستوي التعليم والخدمات الصحية ومستوي المعيشة بين سكان العشوائيات والمناطق الفقيرة..
وعلي المستوي السياسي كانت النخبة المصرية قد وصلت إلي أسوأ حالاتها امام تراجع المستوي الثقافي والفكري والحضاري الذي تجسد في ظهور تيارات فكرية ودينية لا تتناسب مع وسطية الفكر المصري وقناعاته وثوابته في كل المجالات
وهناك مظاهر حضارية متقدمة فرضها التطور الإنساني ينبغي ألا تقارن من خلالها زمنا بزمن آخر ولكننا كنا قد وصلنا إلي صيغة من الحكم الذي امتد إلي ثلاثين عاما وبدأ رحلة جديدة مع التوريث أساءت لكل ما جاءت به ثورة يوليو من حكم الشعب وعادت مصر مرة أخري تبحث عن أسرة تحكمها ما بين أسرة محمد علي وأسرة آل مبارك, في المقابل كان الاحتلال الإنجليزي قد رحل لتحل مكانه وصاية أمريكية متخفية أدت إلي تراجع دور مصر عربيا ودوليا خاصة مع صعود الدور الإسرائيلي في المنطقة وكان ذلك كله علي حساب الدور المصري..
لايوجد تشابه بين ثورة يوليو و ثورة يناير لأن ثورة يوليو كانت انتفاضة جيش يشعر بالظلم, أما ثورة يناير فكانت صرخة شعب يشعر بالظلم والفقر والمهانة.. وحين خرج الجيش المصري في ثورة يوليو كان الشعب هو السند والحماية.. ومع ثورة يناير وقف الجيش المصري يحمي إرادة الشعب ورغبته في التغيير وإسقاط نظرية التوريث.
هناك فارق كبير في مسيرة الأحداث التي تلت الثورتين.. فحين قامت ثورة يوليو تولي شباب الضباط الأحرار السلطة كاملة بعد تنحية الملك وترحيله واسرته خارج مصر ومصادرة جميع ممتلكات أسرة محمد علي..
وخلال عامين كان قد تم إصدار قانون الإصلاح الزراعي وتوزيع مئات الالاف من الأفدنة علي الفلاحين في أكبر عملية ثورية لإعادة توزيع الثروة في مصر في عصرها الحديث.
وقامت ثورة يوليو بعزل جميع الرموز السياسية التي تنتسب للعهد الملكي ابتداء بالأحزاب السياسية والرموز الفكرية والباشاوات والحاشية وما بقي من العهد الملكي.. وشهدت الساحة محاكمات ثورية صورية تمت فيها تصفية قواعد النظام السابق بكل مكوناته البشرية والسياسية.
لم يحدث شيء من ذلك كله بعد ثورة يناير باستثناء خلع الرئيس السابق وإبعاده واسرته عن السلطة فقط وإن بقي كل شيء علي حاله..
وبقيت مؤسسات النظام السابق بكل رموزها وشخوصها في سلطة القرار ولعل ذلك كان سببا في رغبة البعض في إعادة استنساخ النظام السابق بصورة أو أخري..
ولم تستطع قيادات ثورة يناير من الشباب الوصول إلي شيء في السلطة مما عرضها لعمليات قمع وتشويه وصلت بها في النهاية إلي محاكمات واتهامات بالعمالة..
لم يتغير شيء من احوال الطبقة الجديدة التي نهبت اموال الشعب وسرقت ثرواته إبتداء بتوزيع الأراضي وانتهاء ببيع مشروعات القطاع العام والإستيلاء عليها.
ولاشك ان بقاء مؤسسات الدولة المصرية بكامل هيئتها في سلطة القرار جعل التغيير مهمة صعبة بل مستحيلة وألقي بشباب الثورة بعيدا عن مسيرة الأحداث في مصر..
خرج شباب ثورة يناير محبطا وحزينا امام اطراف كثيرة سرقت ثورته.. كان ذلك واضحا في انقضاض القوي السياسية التقليدية الرسمية والشعبية علي الثورة وهي قوي خرجت من رحم النظام السابق وكانت من بين أدواته في القمع والاستبداد والمصالح.. كما ان القوي السياسية الشعبية لم تكن علي مستوي الأحداث, حيث دخلت في صراعات مع بعضها بحثا عن دور أو مكاسب.. وامام سيطرة من بقايا النظام السابق علي مناصب الدولة والصراعات الحادة والعنيفة بين القوي السياسية في الشارع المصري وفساد احوال النخبة وجدت قوي ثورة يناير نفسها امام واقع سياسي أشد ضراوة في عدائه من النظام السابق..
وهنا نستطيع ان نضع ايدينا علي الأسباب التي جعلت ثورة يوليو تنجح وتحقق أهدافها في الوصول إلي السلطة لتشهد مصر أكبر عملية تغيير اجتماعي وسياسي في عصرها الحديث..
لقد تولي الضباط الأحرار السلطة ومع الوقت والزمن وجدوا انفسهم امام برامج واضحة للتغيير رغم خبراتهم المحدودة.. ولأن ثورة يوليو كانت معها قوة الجيش استطاعت في فترة قصيرة جدا ان تفرض وجودها وتبدأ رحلة التغيير بقوة السلطة والقرار
ولأن ثورة يناير كانت بلا قيادة وبلا برامج وبلا قوة تحميها دخلت في مسارات عديدة وانقسامات حادة ولم تكن القوي السياسية علي درجة كافية من الشفافية والاقتناع بثورة يناير كما ان بقايا النظام السابق بقيت في مواقعها ومعها الأموال والسلطات والإمكانات التي سخرتها لتفريغ هذه الثورة من كل مقوماتها..
ورغم كل ما تعرض له شباب ثورة يناير من محاولات التشويه والاتهامات الضارية فإن مصر كانت قد تغيرت بعد ان سقطت قلاع الاستبداد والقمع لتبدأ زمنا جديدا لم يتبلور بعد فلم, يصل شباب الثورة إلي سلطة القرار ولم تتغير مؤسسات العهد البائد ولم ترحل الرموز السابقة كما رحل رأس النظام ورغم هذا كله فإن مصر تغيرت وسوف تكمل ثورة يناير مسيرتها ولن ترجع عقارب الزمن للوراء.