أمينة أبو شهاب

يعجز اليوم مفهوم ldquo;الفوضى الخلاقةrdquo; عن أن يعكس ما يحدث في دول العالم العربي من انكسارات وتساقطات في البنى الاجتماعية والسياسية . كان المفهوم الذي يعود إلى اليمين الأمريكي الصهيوني وإلى كوندوليزا رايس ضبابياً، وينبئ بالفوضى العامة التي سيساق إليها الوطن العربي لإعادة تركيبه على أساس ldquo;ديمقراطيrdquo;، وعلى أساس مؤسسات ldquo;حضاريةrdquo; بدل المؤسسات التسلطية غير الحضارية . ما خفي في المفهوم خلف إسقاط النظام التسلطي هو تقويض ldquo;الدولةrdquo; كمكتسب حضاري يدير الشعوب ويوحدها وينظم شؤون حياتها ويدافع عنها إزاء الخارج . من دون الدولة تعود الحياة العربية إلى محليتها وتجزؤاتها وإلى جاهليتها وبدائيتها وحالة ضرب الناس لأعناق بعضهم بعضاً، كما في الوصف النبوي .

ما كان يجب التوقف عنده في مفهوم ldquo;الفوضى الخلاقةrdquo; حين خرج إلى الوجود وتم تداوله هو كيفية حصول الفوضى، وأنها لا تتم من دون النية الخبيثة والخطيرة باستهداف بنية ldquo;الدولةrdquo; العربية وزعزعتها، والارتداد بالعرب إلى حالة ما قبل الدولة .

مفهوم ldquo;الفوضى الخلاقةrdquo; الضبابي والعام أخذ يحل محله هذه الأيام بديله الأوضح وهو مفهوم ldquo;الأفغنةrdquo; للعرب، وذلك بعدما تمخضت وتجلت أحداث وتطورات كبرى وحروب دموية لا تنتهي وذلك خلال العشر سنين الأخيرة عن هدم بنية الدولة في عدد من الدول العربية وعن زعزعتها ومحاولة تفكيكها في أخرى .

بداية مجتمع اللادولة كان في لبنان أثناء الحرب الأهلية في السبعينات، واستمر بعد ذلك بأشكال أخرى إلى اليوم .

وكان هذا الذي تنحل فيه بُنى الدولة ومؤسساتها في ذروة ظهوره في السبعينات يدرس في جامعات الغرب كمثال عصري على معنى غياب الدولة وتبعاته من انهيار حياة المجتمع وسلامته وحضاريته وثقافيته .

لقد أخفت الحرب ضد العراق هدفاً بعينه تكشفه ldquo;الأفغنةrdquo; اليوم بكل وضوح وهو إسقاط ldquo;الدولةrdquo; العراقية، وليس النظام التسلطي فيها على وجه الخصوص . وكانت حشود الغوغاء واللصوص وأبناء الفقر المدقع الذين ظهروا في الأيام التالية للغزو على شاشات التلفزيون ينهبون مؤسسات الدولة ويفككون أبنيتها حجراً حجراً، هم إشارة إلى إلغاء وهدم الدولة العراقية وإلى بداية عصر ارتدادي إلى ما قبل الدولة، حيث تحل التجزؤات القبلية والمناطقية والمذهبية محل الدولة الموحدة والمهابة التي تنظم حياة المجتمع في كل مجالاتها . سياسياً، انفصل إقليم كردستان على نحو عملي عن العراق الأم، وانقسمت المناطق الأخرى على أسس عشائرية ومذهبية وجهوية . ولم تكن نتائج انهيار الدولة العراقية بعامل خارجي هي الفوضى وفقدان الخدمات الأساسية للمواطنين وغياب الهوية الموحدة لهم فحسب، بل ماهو أفدح من ذلك وهو سيلان الدم العراقي في حرب داخلية لا توقّف لها .

وإن كان هدم الدولة والارتداد بالمجتمع إلى مرحلة ماقبل الدولة هو الرواية الأصح والأجدر بالاستخلاص مما حصل من غزو للعراق، فإن الربيع العربي هو الأكثر وضوحاً والأبعد والأقوى فعلاً وفاعلية في تقويض وزعزعة الدولة عربياً، وذلك حسب مراكز أبحاث عالمية محترمة، وحسب الأدبيات ldquo;الإسرائيليةrdquo; أيضاً، لأن هذه الأدبيات تعرض ldquo;حقائقهاrdquo; الصارمة لقرائها ldquo;الإسرائيليينrdquo; .

قال جورج بوش في مناسبة إطلاق مركز يحمل اسمه في واشنطن، وذلك بمناسبة الربيع العربي الذي أحدث كثيراً من التغييرات في العالم العربي: ldquo;إن الأنظمة التسلطية سوف تسقطrdquo;، والمغزى بشكل واضح هو الانهيارات والتفككات في الدول وبنيتها ومؤسساتها وليس بنى التسلط . فهل كان هذا هو نتيجة عرضية وغير مقصودة لثورات الربيع العربي كما يراد للعرب تصديقه؟

وإن كان هذا صحيحاً فكيف نفسر ماحدث في دول عربية فككت وتفكّكت بالعنف والحروب بمناسبة الربيع العربي وتحت غطائه، كما حدث في ليبيا التي تم استهداف بنيان الدولة فيها بشكل منهجي حتى عادت أقاليم مناطقية تتقاتل في ما بينها على حيازة الثروة البترولية والانفراد بها، وفقد المجتمع الليبي مكتسباً سياسياً وحضارياً له هو ldquo;الدولةrdquo; بغض النظر عمن كان يمسك بزمام تلك الدولة أو يترأسها .

المثال الليبي وقبله العراقي يثبتان أن الدولة العربية لم تتحلل من تلقاء نفسها وبفعل انهيار عربي داخلي، وهناك أسئلة مفتوحة كذلك في أحداث الربيع العربي في دول لم تحدث فيها حروب لتغيير الأنظمة، وإنما حراك جماهيري سلمي . وهذه الأسئلة تتعلق باستهداف واسع النطاق لمؤسسات الدولة الشرطية والأمنية حرقاً وتدميراً، كما حدث في مصر وأدى إلى شلل أمني وإلى غرق البلاد في الفوضى، كما حدث في الأسابيع الأولى للحراك المصري . ومازال الفاعلون مجهولين في هذه الأحداث الواسعة النطاق . ويبدو واضحاً لكثير من المصريين الآن أن الدولة المصرية الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ والثابتة الأركان على مر العصور، أنها محل استهداف خاصة مع وجود جيوب حدودية خارجة عن سيطرة الدولة، ومع عجز الدولة عن الإيفاء بدورها الاعتيادي في فرض الأمن وتوفير الخدمات .

إنها صورة حية من ldquo;الأفغنةrdquo; تلك التي تتحدث عنها الصحافة الصهيونية في ما يتعلق بالعرب بمشرقهم وبمغربهم وبسوريا ولبنان والعراق ومصر واليمن وغيرها . وفي مقال ظهر في ldquo;اليديعوتrdquo; بتاريخ 21-6-2012 يتحدث الكاتب عن ldquo;إسرائيلrdquo; التي لم تعد تحاط بدول، وإنما بمنظمات وقبائل مسلحة حتى أعناقها، ما يعني، حسب الصحيفة، أن اتفاق سلام مع نظام حكم لم يعد ممكناً، مادام أن الاتفاق يجب أن يكون طويل الأمد وليس مؤقتاً مع أنظمة مؤقتة على الورق . وهكذا فrdquo;إسرائيلrdquo; هي في حِلّ من منطق الأرض مقابل السلام في ظل عدم وجود ldquo;نظامrdquo; عربي، وفي ظل الاضطراب في المنطقة العربية حيث لم يعد الرأي العام يلومها على موقفها المعارض ldquo;للتنازلاتrdquo; .