شمس الدين الكيلاني

شهد (أيلول) ثلاثة أحداث كبرى صادمة للضمير العربي في العصر الحديث، ترسّخ وقعها في ذاكرة جيلنا العاثر، الذي عاش فورة الأحلام والمشاريع الكبرى لتغيير حال العرب وأوضاعهم، ومرّ عليه الزمان ليشهد انطفاءها واحدة في أعقاب أخرى. لم يتوقف تأثير هذه الأحداث على الوجدان فحسب، بل إن هذا التأثير دفع التاريخ العربي بوجهة مغايرة لما هو مأمول ومتوقع.
أولى تلك الأحداث، من حيث الترتيب الزمني، والفاعلية التاريخية، هو تمزق (الجمهورية العربية المتحدة) بانفصال سوريا عن مصر، في 28 أيلول عام 1961، وإعلان نهاية تجربة الوحدة السورية المصرية التي قامت في شباط 1958، تحت قيادة الرئيس جمال عبد الناصر على أمل أن تكون نواة وقاعدة للوحدة العربية الشاملة، ستلتحق بها أقطار عربية أخرى، كلما تهيأت ظروفها الذاتية لهذا الانضمام. ولقد قامت تلك الوحدة في خضم زمن ملحمي للعرب ابتدأه عبد الناصر بتأميم قناة السويس، وكسر احتكار الغرب للسلاح، وخروجه منتصراً سياسياً في معركة العدوان الثلاثي، وزعيماً غير منازع للعرب اخترقت شعبيته المليونية حدود الدولة الوطنية العربية لتشمل العالم العربي برمته. فقاد العمل العربي المشترك بطريقة لاح للعرب فيها، أنهم بدأوا يأخذون لهم مكاناً لائقاً بين الأمم، وصارت القاهرة، أثناء ذلك، في موقع العاصمة المعنوية للعالم العربي، وللقارة الأفريقية، والشريك الأبرز مع نيودلهي وبلغراد في توجيه دفة دول عدم الانحياز. وانفتح العرب حينها، من موقع الثقة بالذات والتطلع الواثق بالمستقبل، على ثقافة العصر، من دون القطيعة مع الثقافة القومية. فالتقت، في هذا الخضم، الخطوط السياسية بين مصر وسوريا يعزّزها الصراع المشترك ضد سياسية الأحلاف الاستعمارية، فقامت (الوحدة) تتويجاً لهذا اللقاء الكبير، مع موج عارم من التأييد الشعبي على الصعيد العربي، على أمل أن تكون نواة للوحدة الشاملة. لكن الانفصال في أيلول وضع نهاية مأسوية للوحدة وللآمال المُعلَّقة عليها. وكانت هذه الصيغة الوحدوية quot;الاندماجيةquot; نموذجاً ارتضته النخب الراديكالية (التقدمية) على حساب صيغة quot;الجامعة العربيةquot;، والصيغة quot;الدستورية التعاقديةquot;، فكان quot;الانفصالquot; الأيلولي بمثابة تراجع لنموذج الوحدة الاندماجية وإعلان بالفشل له.

لقد صدم 28 أيلول أحلام العرب بالوحدة، التي بدت راجحة أيام عبد الناصر، فاستغل العسكر الانقسام الوطني الكبير الذي أعقب الانفصال، فانقضوا على السلطة، فانفتح الطريق لبروز نخبة جديدة حولت سوريا، إثر تحكمها بها،إلى محور في مواجهة مصر عبد الناصر، والنظام العربي برمته، وزادت من تمزق العرب، وخلقت وضعاً استنزفت فيه طاقاتهم، وقادت بالنهاية إلى هزيمة 1967.


كسر (أيلول الأسود) زخم حركة المقاومة الفلسطينية، والاندفاعة الشعبية العربية التي أحاطت بها، فانحصرت بعدها بجنوب لبنان، وذلك بدفع من النظام السوري ليتخلص من أعبائها وليستثمر وجوهاً لصالحه عند الطلب، وهو ما جعلها أكثر خضوعاً لسياسات النظام السوري الذي استنزف جزءاً مهماً من طاقاتها في توظيفات محلية لبنانية سهلت له فيما بعد حدوث الانقسام الكبير في لبنان، والتدخل العسكري لبنان؛ وظل يتلاعب في الشأن الفلسطيني إلى أن أَجهز على منظمة التحرير الفلسطينية العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 1982، فانتقل مركز المقاومة الفلسطينية، نهائياً، إلى قلب فلسطين،أما ما تبقى منها من نقاط عسكرية في لبنان فبقيت إلى حد كبير تحت رعاية النظام الأمني السوري، ولا تمُّتُ بصلة إلى النضال الفلسطيني.
أما الحدث الأيلولي الثالث الصادم، فيتعلق بوفاة عبد الناصر، في 28 أيلول 1970، في زحمة انشغاله بوقف النزيف الفلسطيني. فكانت وفاة عبد الناصر معلماً بارزاً لنهاية حقبة في تاريخ العرب المعاصر، هي quot;الحقبة الناصريةquot; أو الحقبة quot;القومية التقدميةquot;، تقهقر بعدها تأثير الفكرة العربية على الساحة السياسية العربية، لاسيما على quot;الأنظمة التقدميةquot; في سوريا والعراق وليبيا، التي رشَّحت نفسها لتكون وريثة لدور عبد الناصر ولنموذج دولته. فلم تستطع أن ترث إلاّ الجانب الأوامري القمعي لنظامه الاستبدادي.


تزامنت وفاة عبد الناصر مع انكشاف عجز وإفلاس (النظام التقدمي) المركزي، وحدوده التاريخية على الصعيد العالمي بدءاً من شرق أوروبا. فلم يتبق بعد وفاة عبد الناصر، سوى دول الأجهزة المخابراتية quot;التقدميةquot; وأشباح مشاريع الفكرة العربية. وخبا بالتوازي مع ذلك ما سمي بحركة التحرر القومي العربية، ومعها تراجع العمل العربي المشترك، وحركة التضامن والالتزام بالقضية الفلسطينية، التي غدت مسألة ثانوية في جدول العمل الرسمي العربي، كما تضاءل موقع العرب العالمي، بعد انهيار العراق نتيجة حماقات قيادته السابقة وحماقة قيادة أميركا البوشية، وفقد النظام العربي فاعليته لغياب العلاقات الديمقراطية بين أطرافه وتغليب لغة سياسة المحاور المهلكة عليه.
وهكذا أصبح العرب بعد ثلاثة عقود من وفاة عبد الناصر، أكثر تمزقاً، وأكثر ابتعاداً عن الإمساك بمصيرهم، لدرجة أن بلداً مثل العراق بقوته وغناه، صار مستباحاً لإيران وللقاعدة ولأميركا.غير أن ربيع الثورات العربية افتتح عهداً جديداً في تاريخ الشعوب العربية، على الأقل أخرج العديد من هذه الشعوب من القمقم إلى رحاب التغيير وإلى زمن التحركات الشعبية المنطلقة من عقالها لتمسك بمصيرها ومستقبل بلادها وتمهد الطريق للديمقراطية، وربما يستطيع الشعب السوري، في أيلول 2012 الحالي، أن يضع أقدامه على عتبة الحرية والانعتاق من قهر نظام استمر يفتك به أربعة عقود من الزمان.