ياسر عبدالعزيز


غداة إعلان فوزه بأول انتخابات رئاسية نزيهة تشهدها مصر في تاريخها، وقف الرئيس مرسي يخطب منتشياً على منصة في ميدان التحرير أمام مئات الألوف من أنصاره، فأكد سعيه لجعل مصر ldquo;دولة ديمقراطية دستورية مدنية حديثةrdquo;.
منذ أعلن حزب ldquo;الحرية والعدالةrdquo;، الذراع السياسية لجماعة ldquo;الإخوان والمسلمينrdquo;، ترشيح مرسي لهذا المنصب الكبير، لم يصدر عنه مثل هذا الالتزام إزاء شكل الدولة التي سيحكمها، وهو التزام بدا واضحاً ومؤكداً في تلك الأثناء.
لكن مرسي قرر أمس الأول الجمعة، ولأول مرة منذ انتخابه، أن يقول، في ldquo;خطبة دينيةrdquo; ألقاها في أعقاب أدائه صلاة التراويح في أحد مساجد ضاحية مصر الجديدة شرق القاهرة، إن ldquo;الكل متفق على أن الشريعة الإسلامية هي الدستور الحاكم لكل مفاهيم الحياةhellip; القرآن الكريم لم يترك شيئاً إلا وتكلم عنه وبيّنه، حتى لو كان من أمور الحكمrdquo;.
منذ توليه منصبه قبل نحو 50 يوماً لم يتوقف مرسي عن الأداء العلني للشعائر الدينية، وإضافة إلى أدائه العمرة مرتين، فقد ملأت صوره وهو خاشع يصلي أو يتمتم بالدعاء صفحات الجرائد وشاشات التلفزيونات.
لقد ظهرت أيضاً نزعة قوية جداً لدى الرئيس لممارسة دور الواعظ أو الخطيب، إذ لم يفوت الفرصة أبداً في أي شعيرة أداها ليلتقط الميكرفون ويبث شيئاً مما يحفظ عن ظهر قلب من أدبيات الدين الإسلامي وتراثه وأحكامه وrdquo;سيرة رسوله الكريم وصحابته الميامينrdquo;.
ولذلك، فقد اعتاد الجمهور على سماع الرئيس يفرط في الأحاديث ذات الطبيعة الدينية يوماً بعد يوم، وهو أمر مذهل بالنسبة إلى الشعب المصري عند مقارنة تلك التوجهات الرئاسية الجديدة بالطريقة التي كان يتعامل بها الرؤساء السابقون ناصر والسادات ومبارك.
يحدث هذا في وقت استطاع خلاله مرسي أن ينفرد بحكم البلاد تماماً بعد تخلصه من منازعة ldquo;المجلس العسكريrdquo; له في سلطاته، بإطاحة المشير طنطاوي والفريق عنان وعدد آخر من قيادات القوات المسلحة من مناصبهم، واختيار وزير جديد تفيد مؤشرات عديدة بمهنيته وولائه لشرعية الرئيس.
لا يحيط المصريون تماماً بالطريقة التي جرت بها التغييرات الأخيرة الخطيرة في المؤسسة العسكرية، ولا بدور الولايات المتحدة فيها، ولا يفهمون إذا ما كان خروج تلك القيادات ومنحهم المناصب الرفيعة والنياشين الراقية معناه التزام الرئيس إزاءهم بعدم جرهم إلى محاكمات كتلك التي تعرض
لها مبارك وأركان نظامه، خاصة أن فعاليات سياسية عديدة تحملهم مسؤولية جرائم ارتكبت في حق متظاهرين وثوار خلال الفترة الانتقالية، كما أن حجم مسؤوليتهم عن حادث رفح الإرهابي لم يتضح حتى الآن.
ينشغل المصريون أيضاً بصعوبات حياتية حادة أحالت أيامهم خلال شهر رمضان، الذي انصرم للتو، إلى سلسلة من المعاناة والقلق؛ إذ تفاقمت أزمات انقطاع الكهرباء والمياه ومعها انفلات أمني خطير، أدى إلى إقدام آلاف المحتجين على قطع الطرق الرئيسة في البلاد بانتظام، فضلاً عن مخالفات جنونية لقوانين البناء، وإشغالات هزلية للطرق جعلت الباعة الجائلين يحتلون معظم الطرق التجارية الرئيسة ويفرشون بضائعهم في مجاري السير، مجبرين السيارات على التكدس لانتظار فرصة ضيقة جداً للمرور.
لقد خاض مرسي معركته الكبرى من أجل تخليص رئاسته من أي منازعة تحول دون ممارسته كامل صلاحياته الرئاسية، بل إنه بات يتمتع بسلطات أكبر من تلك التي تمتع بها سلفه حسني مبارك، حيث جمع السلطة التشريعية إلى جانب السلطة التنفيذية كما أصدر تعديلاً دستورياً أعطى لنفسه فيه الحق في تعيين الجمعية التأسيسية المعنية بصياغة الدستور الجديد في حال إخفاق الجمعية الراهنة في الاستمرار.


ولذلك، فقد بدأ، بعد استتباب الأمور له،اولة تفعيل مشروع جماعة ldquo;الإخوان المسلمينrdquo; التي أتت به إلى الرئاسة، وإرضاء حلفاء الجماعة في التيارات الإسلامية الأكثر محافظة، وعلى رأسها الجماعات السلفية، والذين يصرون على تطبيق الشريعة بأسرع وقت ممكن، إضافة إلى استرضاء ملايين من المصريين البسطاء الذين أعطوا أصواتهم له على أمل ldquo;تطبيق شرع الله الذي سيحل كل المشكلات التي تعاني منها البلادrdquo; من وجهة نظرهم.
يتوقع عدد كبير من السياسيين والناشطين الليبراليين أن تكون هناك مشكلة كبيرة تتعلق بتحديد ldquo;هوية الدولةrdquo;، عبر الخلاف على صياغة المادة الثانية في الدستور السابق والتي تتحدث عن دور الإسلام ومرجعيته في المجتمع.
المعركة المقبلة لمرسي، بعد الانتهاء من مناوءة العسكر، ستكون على شكل الدولة المصرية وهويتها بعد ثورة 25 يناير وتحت حكم ldquo;الإخوانrdquo;.
يريد مرسي، وهو مضطر أيضاً، إلى مجاراة جماعته، التي أتت به إلى الرئاسة، في مشروعها لتطبيق الشريعة، وإلى دفع استحقاقات دعمه لحلفائه اليمينيين (أكثر من عشرة تنظيمات إسلامية بعضها مارس العنف في التسعينيات الفائتة) الذين أكدوا أنهم لم يمارسوا السياسة ويخوضوا الانتخابات إلا ldquo;لتطبيق شرع اللهrdquo;، وربما أيضاً سيحتاج إلى مقايضة ملايين المصريين في أعماق الريف والأحياء المهمشة على الحلول الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والخدمية لمشكلاتهم العميقة مقابل مغازلة مشاعرهم الدينية الجارفة بـrdquo;تطبيق شرع اللهrdquo;.
يريد مرسي بالطبع أن يكون ميدان معركته المقبلة الجمعية التأسيسية، عبر إضافة مواد دستورية تعزز تطبيق الشريعة؛ مثل استبدال ldquo;أحكام الشريعةrdquo; بـrdquo;مبادئ الشريعةrdquo; كمصدر رئيسي للتشريع، أو جعل ldquo;الأزهر مرجعية نهائية في الأمور الدينيةrdquo;، أو ldquo;إنشاء هيئة من علماء الدين للتأكد من توافق التشريعات والقوانين مع الشريعة الإسلاميةrdquo;.
لم يعط مرسي للمجال العام في مصر تصوراً متكاملاً لتطبيق الشريعة، ولم تشرح جماعة ldquo;الإخوانrdquo; للجمهور مثلاً أي نموذج تريد أن تطبقه في هذا الصدد، بل إن الحلفاء الأشد محافظة مثلاً يذهبون إلى أشكال من تطبيق الشريعة أكثر صرامة من تلك المطبقة في إيران أو السودان، وطالب بعضهم مثلاً بوضع عبارة ldquo;السيادة للهrdquo; في الدستور، كما تمسك آخرون بضرورة النص على أن ldquo;مصر دولة شوريةrdquo;، وهي أمور لا تحدث إلا في دولة دينية بامتياز.
معركة مرسي المقبلة ليست مع هؤلاء فقط، لكنها ستكون مع أطياف عريضة ومتماسكة في المجتمع المصري، خصوصاً تلك التي خرجت في ثورة 25 يناير تنادي بـrdquo;عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانيةrdquo;، والتي تعتقد أن مشاكل المصريين ليست في تطبيق الشريعة أو تمكين الإسلام، الذي يعرف تمكيناً تاريخياً في ذلك المجتمع المتدين والمحافظ بطبعه.
معركة مرسي المقبلة على شكل الدولة المصرية وهويتها، وهي معركة خطيرة، قد تكون أصعب من معركته مع العسكر، ولن يكون مجالها القصر الرئاسي أو جمعية إعداد الدستور فقط، إنما المجتمع كله، كما أن تداعياتها ستكون مؤثرة وحاكمة لما سيحدث في بلدان التغيير العربية كلها وغيرها من بلدان المنطقة أيضاً