نصري الصايغ

الحرب الأهلية اللبنانية تأخرت. كانت متوقعة من زمن، وباتت منتظرة، ومستغرب جداً انها لم تبدأ بعد... شغل اللبنانيين الشاغل، البحث عنها خلف أو بعد حدوث أمر جلل. يوضبون أيامهم على خوف منها، كأن تباغتهم على غفلة. ويخططون لأيامهم القادمة كأنها مستقبلهم... ولسان حالهم: laquo;لا مفر منهاraquo;.
لكنها لم تقع بعد.
علامات قدومها كثيرة ومتعددة ومتنوعة. أسباب اندلاعها مقروءة ومفصلة ومثبتة بتصريحات سياسية وتعليقات صحافية وتحذيرات laquo;مسؤولةraquo; وتوقعات أصحاب الشأن، داخليا وإقليميا ودولياً. لا شيء يشي باستبعادها. جاذبيتها قوية. ستدخل من البوابة السورية، تطبيقا لـlaquo;وحدة المسارينraquo; بين دمشق وبيروت، وتحديداً في الضراء لا في السراء. ومن المؤكد أن الجاهزية اللبنانية لاستنساخ الحرب الأهلية السورية الدائرة، عالية الكفاءة والنبرة: فريق 14 آذار، في حلف دولي اقليمي سوري، لإسقاط النظام، بكل ما أوتي من دعم وتأييد وتسليح وإعلام وتطييف وتوظيف، ولإسقاط حلفاء النظام في لبنان... وفريق 8 آذار، ما زال على صراط laquo;الممانعةraquo; يدافع عن نظام الأسد، كحلقة من منظومة استراتيجية، إذا سقط، اختل التوازن لمصلحة laquo;حلف الاعتدال والتنازلraquo;، خارج لبنان وداخله. ولن يمر هذا التغير الاستراتيجي سلمياً أبداً. فهو بحاجة إلى شكل من أشكال الحروب الأهلية... وهي قيد التشكل.
ومع ذلك، فإن الحرب الأهلية لم تقع بعد.
لا موانع ولا سدود مانعة... الانزلاق سريع الانحدار. لا ضوابط للفلتان، ولا أحد بمقدوره أن يحمي السلم الأهلي الهش.
الطوائف المركزية (وليست طوائف الأطراف الضعيفة) أو بالتحديد، الطائفتان المتمذهبتان، سنة وشيعة، تعيشان على حافة الهاوية. عكار، ريف دمشقي، تتعامل مع سوريا النظام، كحاضنة للثورة، ويتعامل معها النظام كأنها أرض معادية. طرابلس، عاصمة من العواصم المحررة من النفوذ السوري، وحلفائه في لبنان. طرابلس laquo;تحررتraquo; سنياً... صيدا بإمرة الشيخ الأسير، تمرن على الحرب الأهلية الكلامية... العدة التحريضية لها أصداؤها سنياً... بعض السنة ضد صوت الأسير وصورته، ومع قلب الأسير وعقله... والتشنج بلغ أقصاه... عنجر وجوارها، بلغت الرشد السني سياسياً من زمان... وهكذا دواليك.
في المقابل، عدة الحرب الأهلية متوفرة من مناطق السيطرة الشيعية... أحياء laquo;تحررتraquo; من حسابات laquo;حزب اللهraquo; الاستراتيجية، وتتجرأ على ما لا يستطيعه laquo;حزبraquo;، لحكمة سياسية... يرفع يده، كما يقال، ويترك الأمور لعواهن الشارع. يخرج آل المقداد، وغدا آخرون، وتزدهر المناطق المحتضنة حزبيا، بالعشائر والقبائل والافخاذ، ويصير لكل عشيرة، ذراع عسكرية وأخرى أمنية واخرى اعلامية واخرى ديبلوماسية... وإنما، تحت خيمة laquo;الحزبraquo; أو تحت عباءة laquo;أملraquo;، أو ما بينهما من مساحات أفرغت طوعاً.
وبرغم هذا الاصطفاف الساحق، لم تندلع الحرب الأهلية بعد. ثمة علامات لا شك في كونها من علامات الأزمنة الدموية: الدولة اللبنانية بلغت حتفها إلا قليلا. لا دولة في لبنان من زمان أكلتها الطوائف وزعاماتها ورجال دينها وزبانيتها... (تجتاحني رغبة في صفع كل من يدعي ان في لبنان دولة). مزرعة لبنان الكبير، صارت مزارع، بعضها قيد الاقامة الجبرية تحت سلطة زعامات دكتاتورية شمولية، مؤيدة ومثبتة في مواقعها بقوة طائفية ساحقة، وبعضها القليل، لا يزال مشاعاً أو مشتركاً في ما بين هذه الزعامات.
لا دولة تحمي اللبنانيين، يعني، ان السلطة فيها راهنا في حالة اهتراء متزايد. ضعفها مثبت في تغيب قوى الأمن والجيش عن حماية الناس. أي فريق مدعوم، أي عشيرة مدعومة، أي سلفية مدعومة، أقوى من الجيش اللبناني الذي لا يحظى بأي دعم سياسي، اللهم، إلا كلاميا. قوى الأمن، مشكوك في ولائها المذهبي، ما بين سنة وشيعة. (المسيحيون خارج الملعب. ليسوا بديلاً عن أصيل) القضاء مشلول اليد. لا يعيد لصاحب حق حقه. هو قضاء لا يأمر ولا يحكم باسم الشعب اللبناني، لانه مأمور باسم الطوائف المركزية.
أمن وحقوق بالتراضي... والظلم سيد الاحكام. وبرغم هذا الفلتان، فإن الحرب الأهلية لم تقع.
من علامات الفتنة القادمة، انتشار السلاح. لقد تعسكر الشعب اللبناني. لكل فريق عسكره الخاص. الميليشيات مزدهرة. تظهر في عراضات تلفزيونية، ولا يرف للدولة جفن... تنام ملء جفونها على شوارد الطوائف، وتتركهم للخصام المجاني.
لا اتفاق على شيء، ولا حوار البتة. ومع ذلك، فإن الحرب الأهلية لم تقع. العنف يزداد، ولم تقع. أفلتت الأمور في عكار مراراً ولم تقع، طرابلس تغلي، ولم تقع. الأسير يجول ويصول ويطول، ولم تقع. تهريب صفائح من دمشق لتفجير السلم الأهلي، ولم تقع، آل المقداد يعلنون قيام laquo;جمهوريتهمraquo; ولا... laquo;يا محلى الكحل في عينكraquo; ومع ذلك، فالحرب الأهلية لم تقع.
عنصر جديد دخل المشهد، لعله إذا استمر في أدائه، قد يدخل لبنان في الحرب الأهلية. انه الخطف والخطف المضاد. فماذا لو أقدم سنة على خطف شيعة أو أقدم شيعة على خطف سنة أو دروز أو...؟ ماذا لو اندلع الخطف والخطف المضاد؟ (خطف السوريين كاد يشعل طرابلس. هكذا قيل. نجا لبنان حتى الآن).
ماذا لو لم يعد المخطوفون من سوريا؟
ماذا لو استمرت القوى الاقليمية في دفع القوى المحلية لتفجير البلاد؟
ماذا لو اقتنع أحد بفضائل جهنم ونصائح الحلفاء المأزومين؟
ان اللبنانيين يعيشون الحرب الأهلية من دون ان تقع. ولعله من المفيد القول، ان الحرب الأهلية إذا وقعت، فلن تغير في المشهد السياسي الرسمي شيئا. فالحرب الاهلية اللبنانية، اندلعت بأسباب أقل من الأسباب المعلنة أعلاه. فانهارت الدولة، وفرغت السلطة وتأصلت الميليشيات، وذبح الناس على الهوية، وتهجرت عائلات وطوائف، وتدخلت دول وجيوش، وتموّلت أحزاب وتعسكرت، وقامت مشاريع سياسية ومشاريع مضادة، وأسفرت الحرب بعد 15 عاماً على اتفاق بين المتحاربين، أو من تبقى منهم، على إقامة نظام لبناني، هو هذا النظام الذي لم يعد فيه حجر سياسي فوق حجر سياسي.
الحرب الأهلية القادمة، إذا وقعت، فلن يكون لها تأثير أسوأ، الأسوأ هو أمامنا اليوم. وهو الأسوأ غداً. لا يحلمن أحد، بأن لبنان ما بعد الحرب الأهلية القادمة، سيكون أفضل. ولن يقضي سنة على شيعة أو العكس. سيتدمرون معاً، وسيبقون معاً بعد الدمار المشترك.
لا أفق للحرب الأهلية. هي حرب لا تخدم طرفاً داخليا، ولا تنقذ طرفاً خارجياً.
لا ضرورة لحرب أهلية دموية. فهذه الحرب الأهلية السياسية المحتضنة لعنف بمستوى متدن ومنضبط (حتى الآن) قد تكون البديل عن المعارك العسكرية المؤلمة.
إنما... إنما... الخوف كل الخوف، إذا أقدم فريق على خوض معركة laquo;عليَّ وعلى أعدائيraquo;.
سؤال: من ينجو من هذه المذبحة؟ أي قضية مقدسة تبقى؟ أي اسرائيل ستشعر بالنشوة ولذة الانتصار؟
سؤال آخر: هل يبقى لبنان؟ أم سترث جثته محنطات الطوائف؟