مصطفى الفقي

كلمة ldquo;التمكينrdquo; تعبّر عن مرحلة تعرفها جيداً كوادر التنظيمات السياسية في سعيها للحكم، أما ldquo;الجمهورية الثالثةrdquo; فأعني بها وصول أول رئيس مدني أكاديمي إلى الموقع الأول في البلاد، فأنا أظن أن ldquo;عبد الناصرrdquo; ومن قبله نجيب يمثل ldquo;الجمهورية الأولىrdquo;، بينما يشير حكم ldquo;الساداتrdquo; وrdquo;مباركrdquo;، مع الفارق بينهما، إلى الجمهورية الثانية . ويهمني في هذه السطور أن أشير إلى أحداث ldquo;التمكين السلطويrdquo; في تاريخ مصر الحديثة، فقد دعا محمد علي الكبير عام 1811 جموع ldquo;المماليكrdquo; في عصره إلى قصره في القلعة بعد أن عاثوا في الأرض فساداً وأصبحوا تهديداً مباشراً للوالي الجديد القادم من جنوب أوروبا، واحتشد ldquo;المماليكrdquo; في سعادة متصورين أنها مصالحة مع ldquo;الباشاrdquo; وتعبير عن رضائه لمناسبة توديع أحد أبنائه الذاهب في حملة تأديبية لبعض المتمردين في الجنوب، وما أن انتظم عقدهم واجتمع شملهم حتى انطلق ldquo;البارودrdquo; يحصد أجسادهم ولمعت السيوف تحصد رقابهم، فأنهى محمد علي في ساعات قليلة سطوة المماليك التي امتدت في مصر لعدة قرون، ودخل مرحلة ldquo;التمكينrdquo; الحقيقي في حكم البلاد . وعندما أراد عبد الناصر وهو قامة قومية عالية الانفراد بالسلطة وتأكيد هيبة الحكم بدأ بإعدام ldquo;خميسrdquo; وrdquo;البقريrdquo; في ldquo;كفر الدوارrdquo; بتصديق من الرئيس نجيب رئيس الدولة الشكلي .

ولقد قرأت مقالاً مؤثراً في ldquo;الأهرامrdquo; للكاتبة الصحفية المتميزة صافي ناز كاظم سردت فيه تفاصيل محاكمة هذين الشهيدين من العمال الفقراء الذين ثاروا تأييداً للثورة ضد الأوضاع البائدة في الشركة الكبرى، ولقد حزنت كثيراً عندما اكتشفت أنه قد تم إعدامهما وهما دون العشرين من العمر! ثم بدأت بعد ذلك المواجهة بين عبد الناصر وrdquo;الإخوان المسلمينrdquo; وعلق على أعواد المشانق ستة من قياداتهم عام ،1954 وقيل إن الرجل تأثر بعدها إنسانياً ولكن جاءه أحد علماء الدين الكبار ليقول له ldquo;لا تثريب عليك يا سيادة الرئيس فإن لم تقتلهم لقتلوكrdquo;، وكان ما جرى إيذاناً بدخول عبد الناصر مرحلة التمكين الكامل للسلطة المطلقة في البلاد، ثم وصل إلى الحكم داهية من طراز خاص هو السادات الذي استطاع في 15 مايو/أيار 1971 بعد 160 عاماً بالتمام من مذبحة القلعة أن يطيح بكل الرؤوس الكبيرة من قيادات العصر الناصري واليسار المصري في حركة مفاجئة، حيث استخف الجميع بقدراته، ولكنه استطاع بعدها أن يدخل مرحلة ldquo;التمكينrdquo; وأن يغير الخريطة السياسية والاجتماعية لمصر وأن يقدم أوراق اعتماد جديدة للولايات المتحدة والغرب عموماً بحيث جرت تحولات بدأت معها بالفعل ما نطلق عليه ldquo;الجمهورية الثانيةrdquo; .

وأمضى مبارك في السلطة ثلاثين عاماً على نهج سلفه، مع غيابٍ في الرؤية وقصور في البصيرة، حتى قامت ثورة 25 يناير 2011 التي احتوتها بشكل أو بآخر ldquo;جماعة الإخوان المسلمينrdquo;، حيث حصدت أغلبية برلمانية ثم دان لها منصب الرئاسة في انتخابات ،2012 ووصل الدكتور محمد مرسي الأستاذ الجامعي إلى منصب الرئيس، بينما ldquo;المجلس العسكريrdquo; يقف على الناصية الأخرى معتمداً على ldquo;إعلان دستوري مكملrdquo;، حتى ظن البعض أن ذلك المجلس يمكن أن يناوئ الرئيس وأن يقلص سلطاته إلى حد إضعافه وربما الإطاحة به، ولكن وكما هو معتاد دائماً اكتشف هؤلاء أنهم كانوا أمام وهمٍ لا حقيقة، فقد استطاع مرسي في 12 أغسطس/آب 2012 أن يحل ldquo;المجلس العسكريrdquo; وأن يوزع قياداته على المناصب المدنية وأن يختار وزيراً جديداً للدفاع من جيل مختلف مجدداً الدماء، ثم قام بتكريم القائد العام السابق ورئيس الأركان على نحوٍ غير مسبوق وبشكل حضاري راقٍ يستحقانه، وبذلك دخل مرسي مرحلة ldquo;التمكينrdquo; للجمهورية الثالثة التي اخترناها عنواناً لهذا المقال، ويهمنا الآن أن نطرح الملاحظات الثلاث التالية:

* أولاً: إن مقعد رئيس الدولة يعطي صاحبه سلطة لا يتوقعها الكثيرون في بلد عرفت التقاليد الفرعونية وآمنت تاريخياً بالحاكم الواحد، كما أن بريق السلطة وسطوتها تعطيانه من الصلاحيات ما يجعله قادراً على كسب تأييد الناس تلقائياً بمنطق الشرعية وقوة الدستور والقانون، وهذا ما حدث بالفعل عندما قرر ldquo;مرسيrdquo; أن يقدم على خطوته الجسورة .

* ثانياً: لم نسمع عن سفينة لها أكثر من ldquo;ربانrdquo; ولديها أكثر من ldquo;قبطانrdquo; إلا وغرقت، فلابد من قرار واحد يصدر في النهاية عن المسؤول الأول عن القيادة، ولقد استقبل الكثيرون بارتياح خطوة مرسي الأخيرة باعتبارها قد حصنت البلاد ضد صراع محتمل على السلطة ووضعت القوات المسلحة في مكانها الطبيعي والطليعي، خصوصاً وأنه يبدو أن ما جرى قد تم بالتفاهم والتراضي ولم يكن مفاجئاً لأصحابه، كذلك فإن الجسد السياسي للقوات المسلحة متماسكٌ وسليم وتلك أخطر نقطة في الأمر كله .

* ثالثاً: أدعو أشقاءنا في جماعة ldquo;الإخوان المسلمينrdquo; باعتبارهم فصيلاً مصرياً وطنياً إلى جانب فصائل وطنية أخرى تحت المظلة الكبيرة للأمة المصرية صاحبة السيادة ومصدر السلطات إلى اغتنام الفرصة الذهبية بعد دخولهم مرحلة ldquo;التمكينrdquo; التي تطلعوا إليها أكثر من ثمانين عاماً وفتح الأبواب والنوافذ في رحابة وسماحة لجميع القوى السياسية الأخرى متفقين معها أو مختلفين عنها، فالوطن لكل أبنائه، وrdquo;الأمر شورىrdquo;، والحكم شراكة، والسلطة للشعب .

هذه رؤيتنا للحظة الراهنة من تاريخ البلاد وهموم العباد نسجلها بموضوعية وتجرد لأننا نؤمن بأن مصر غنية بالموارد البشرية والكفاءات الفكرية والخبرات الوظيفية وقد حان الوقت لكي يشارك الجميع في حكم البلاد بعد سنوات طويلة من تجريف الموارد وإهدار الإمكانات وإضاعة الفرص . . إنها ldquo;مصرrdquo; ldquo;أم الدنياrdquo; وrdquo;المحروسةrdquo; وrdquo;كنانة الله في أرضهrdquo; ما أكثر ما واجهت من تحديات وما عرفت من مشكلات! دعنا من السلطة والصراع الذي تم إجهاضه حولها لنفكر جميعاً في الخطر المقبل من الشمال الشرقي من سيناء تلك البقعة العزيزة على قلب مصر التي تمثل جزءاً من تاريخ الخريطة الفرعونية ذاتها، إنها ldquo;أرض الفيروزrdquo; التي خاطب فيها كليم الله موسى ربه في ldquo;الوادي المقدس طوىrdquo;، إن سيناء محط الأنظار وملتقى الأطماع وكل شبر فيها لا تقل مكانته وقداسته عن نظيره بميدان ldquo;التحريرrdquo; في قلب القاهرة، لذلك نطالب بصحوة تصون حدود الوطن، وتحمي مصالحه العليا، وتحافظ حتى الموت على أمنه القومي .