محمد عبدالله محمد


قبل يومين، قلتُ بأن سورية في زواريب العالم. هذا صحيح. فما أحدثته الأزمة السورية دلَّت على ذلك. اليوم، أقف على زُرُوب الأزمة السورية في الإقليم، وبالتحديد جوارها. لنقرأ خارطتها جيدًا. سورية، لها حدود مشتركة مع الأردن في الجنوب بـ 365 كم. ولها حدود مع فلسطين المحتلة عبر الجولان بسبعين كم. ولها حدود مع لبنان بـ 359 كم. ولها حدود مع تركيا بـ 911 كم. ولها حدود مع العراق تمتد إلى حيث 600 كم. ولها حدود ساحلية مع البحر الأبيض المتوسط بـ 193 كم.

أي نحن نتحدث عن 2498 من الحدود المترامية، بينها 2305 كم من الحدود البرية. ليس ذلك فحسب.فنحن نتحدث عن حدود مع تركيا، بوابة آسيا إلى القوقاز ووسط أوروبا، وإحدى بؤر الأطلسي، وصاحبة الإثنيات المعقدة. ونحن نتحدث عن حدود مع العراق، الذي انفلق اجتماعه السياسي والأهلي منذ العام 2003 فأصبح الحكم فيه مختلفاً، وبات ملتقى التحالفات الموضوعية ما بين الإيرانيين والأميركيين، وأيضاً تقع على أرضه في الشمال أول تجربة حكم كردية في المنطقة.

ونحن نتحدث عن حدود مع فلسطين المحتلة، التي مازالت ومنذ ستين عاماً محور الصراع في المنطقة. ونحن نتحدث عن لبنان، الذي مازال جنوبه يعيش على كفِّ عفريت الحرب مع إسرائيل، وتتمدد على سياسييه أهم محاور المنطقة، وتعتمل فيه ثمانية عشرة طائفة. كما أننا نتحدث عن الأردن، أهم حليف للغرب في المنطقة، والواقع بين فكَّي الصراع الأوسطي. ثم هناك البحر الأبيض المتوسط، بمداه الكبير، المؤدي إلى الجنوب الأوروبي في الأعلى، والشمال الإفريقي في الأسفل.

ما يهمنا في هذه المقالة، هو الحديث عن العلاقة مع تركيا. فهذه العلاقة لها شقين أساسيين. الأول أمني، والثاني اقتصادي. في الموضوع الأمني هو الأهم والأوسع، فإن الأتراك هم المعنيون به أولاً، كونه متعلق بالمسألة الكردية. ولأن تركيا، تضم الكتلة الكردية الأكبر (55 في المئة) فهي إذاً أكثر الأوعية الجغرافية التصاقاً بالمشكلة الكردية. ثم إن هذه القضية، قد تحوَّلت ومنذ سنين، إلى صراع مسلح، ما بين السلطة التركية في أنقرة وحزب العمال الكردستاني في المناطق الجنوبية، فإنها قد تحوَّلت إلى هاجس أمني كبير.

سورية أدركت أن المشكلة الكردية، بالنسبة لتركيا هي كعب أخيلها. فهي تستنزف إلى جانب الموازنات الهائلة المرصودة، وتأثير ذلك على الاقتصاد التركي، فإنها أيضاً، تعتبر دائرة استنزافية للكادر البشري العسكري التركي. وهو أمر لا يضغط فقط على شعبية الأحزاب السياسية التركية خلال الانتخابات والحكم معاً، بل يجعلهم أمام محاسبة لحظيَّة متوالية أمام الرأي العام التركي، وبالتالي، تغييرات في نمط الإدارة، وضم أو فك تحالفات سياسية مع قوى أخرى في قوس الدولة التركية.

السوريون، لديهم كتلة كردية على أراضيهم، إلا أنها في الحقيقة، كتلة مُتفاهَمٌ معها إلى حدٍّ ما. فأكراد سورية هم على سماطين. سماط يقوده المجلس الوطني الكردي، ويضم ثلاثة عشر حزباً، وسماط آخر يقوده حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي. والغريب، أن الأخير لوحده يفوق (أو يساوي في أماكن محددة) شعبية الثلاثة عشر حزباً الأولى. والسبب هو أنه الوجه السوري لحزب العمَّال الكردستاني، الذي يقاتل تركيا في جنوبها، وبالتالي فهو الحامل للجموح الكردي العام في المنطقة الرباعية الكردية، ويوظف كلَّ جهده ضد تركيا، وإلى جانب حزب عبد الله أوجلان.

وحتى الأحزاب الكردية الثلاثة عشر، هي بالأساس أحزاب لا يتجاوز سقفها إعلان دمشق 2005، ولأنها كذلك، وخوفاً من حضورها الشعبي التنافسي مع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، أعلنت خلافها جهاراً مع المجلس الوطني السوري الذي رأت أنه لا يحفظ لها حقها القومي، فمايَزَت نفسها عنه. هذا الوضع الكردي المرتبك في الداخل السوري، والحاضنة الأمنية والاستخباراتية السورية، للاتحاد الديمقراطي الكردي، جعل من دمشق، أن تعيد توظيف المسألة الكردية، ولكن ضد تركيا هذه المرة، ردّاً على الدور التركي من الثورة السورية، معيدة بذلك، تجربها التسعينية، ولكن بشكل آخر، ووفق تكتيكات ظرفيَّة جديدة.

أمرت دمشق وحداتها العسكرية والأمنية من إرخاء قبضتها في مناطق الوزن الكردي داخل سورية، سواء في الحسكة الشرقيّة، أو في عفرين بالغرب، وكذلك عين عرب، وأعطت ضوءاً أصفر للأكراد السوريين بأن حرية الحركة لهم على الحدود هي شبه متاحة. بدأ خط الاتصال الكردي (السوري) بالخط الكردي (التركي) واضحاً عبر تلك المناطق، وباتت أعلام كردية قومية تظهر في الشرق والغرب السوري. ثم جاءت التسريبات الأمنية، من أن دمشق ستمنح الأكراد صواريخ سام إن أعطت أنقرة المعارضين السوريين صواريخ ستينغر. وهي بذلك تسعى لإقامة معادلة أمنية جديدة، أقل من حالة إعلان الحرب وأعلى من حالة السِّلم القائمة، وبالتالي وجود منطقة عازلة يقودها الأكراد وتهدد الأمن التركي. وقد لوحِظ تزايد النشاط الكردي العسكري المعادي للجيش التركي في الآونة الأخيرة بطريقة لافتة.

في المسألة الاقتصادية، فإن السوريين والأتراك قطعوا فيها أشواطاً كبيرة جداً منذ قرابة الخمسة أعوام. الفارق، هو أن الصناعة السورية الداخلية كانت الخاسر الأكبر أمام البضائع التركية الواردة، وبالتحديد بعد اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين في العام 2009. في حين كانت الصناعة التركية الداخلية هي المستفيد الأول من هذا التعاون، كونها بُنِيَت بشكل رأسمالي صناعي حديث. ففي العام 2010 فرَّغت أزيد من مئة ألف شاحنة تركية بضائعها إلى داخل السوق السوري، كما مرَّت زهاء ستين ألف شاحنة أخرى إلى دول مجاورة عبر الأرض السورية، ضمن نظام الترانزيت. وقد وصلت قيمة ذلك التبادل إلى ما يزيد على المليارين ونصف المليار دولار.

هذا التوسُّع التجاري بين البلدين، في حال انفكاكه أو توقفه، يترك آثاراً سلبية جدّاً على الطرفين. وربما كان للصناعة التركية النصيب الأكبر في ذلك الضرر، نظراً لأنها كانت المستفيد الأول من تلك العلاقة، ولكونها أيضاً متأسسة أكثر من التجارة الداخلية لمدينة حلب السورية. فهي أولاً عليها أن تجد أسواقاً بديلة عن السوق السوري، ثم عليها أيضاً تحدي الحصول على خطوط اتصال تجارية بديلة عن الأرض السورية، لكي تصل إلى منطقة الهلال الخصيب، ومنطقة الخليج العربي، ولم يبقَ لها سوى البحر للوصول إلى الموانئ المصرية، ومن ثم إلى البحر الأحمر، وهو ما يتطلب إيجاد شركات تأمين جديدة، وإمكانيات تزيد عما هو موجود لدى تجار أنقرة.

لذا، فإن بقاء الأزمة السورية على حالها يزيد من حجم الضغوط على أنقرة، التي عليها أن تنهي الأزمة السورية، بطريقة سريعة، ولكن بدون أكلاف باهظة. وربما كان الأتراك يعتقدون أن الأزمة لن تصل إلى هذا المدى الزمني الطويل، الذي سيتصل بعامه الثاني. وهم وعلى رغم الحوادث الأمنية المقلقة في سورية، حافظوا على تبادلهم التجاري إلى وقت غير بعيد، وإلى ما قبل حادثة الاعتداء على الحافلات التجارية التركية قبل شهر تقريباً، درءاً للخسائر التجارية.

في المحصلة، فإن الهاجس الأمني والاقتصادي، هو من المسائل التي تحكم التحرك التركي، وأيضاً الغربي في المسألة السورية. وإذا كان العامل الاقتصادي يمكن التعاطي بشكل تأجيلي، فإن المسألة الأمنية، وبالتحديد المسألة الكردية، تعتبر من المشكلات المهددة جداً للأمن القومي التركي، في حال انفتاقها واتصالها بالحركة المسلحة الكردية في الجنوب التركي.