أمجد ناصر


ثلاثون عاماً مرَّت على الاجتياح الاسرائيلي للبنان وحصار بيروت ولم أقرأ في هذه الذكرى كلمة واحدة عن تلك الأيام التي لا تُنْسى. فعلى مدار أشهر صيف عام 1982 كانت السماء تمطر حديداً وناراً وكانت الأرض تُدَكّ من خمس جهات وكان بشر بيروت، مقاتلين ومدنيين، يسطِّرون ملحمة صمود غير مسبوقة في تاريخ صراعنا مع العدو الاسرائيلي، وكان معظم العالم العربي يتفرج على ما تعرضه الشاشات من صور الدمار والموت والصمود القليلة التي سرَّبها صحافيون أجانب الى الخارج.. فيما وقف العالم عاجزاً عن لجم آلة الموت الاسرائيلية المسلطة على بيروت.
من ذلك الصيف الدموي بقـــيت عندي دفاتر كُتِبَت هناك، حملتْ أسطرها وشم أيامه الطويلة، ذلك الوشم الذي لا يزال بالوسع قراءة حروفه المتوتّـــــرة في ما تظــــهره الكلمات وتبطـــنه. هذا هو الشيء الوحيد شبه المؤكد بالنســــبة لي. لا أتحدَّث عن تاريخ. لا أتحدَّث عن عبرة. ولا عن رواية كاملة. أتحدَّث عن تدوينات شخصية، عن انفعالات وتفاصيل وشظايا حكايات يومية لا يعــــوَّل عليها كوثيــــقة ولا تطمح، بالتأكيد، أن تكون كذلك، وهي التي ستنشر هذا الشهر فــــي كتاب عن االمكتبة الأهليةب في عمان.لقد رأى بعض الأصدقاء الذين عرضت عليهم كتاب اليوميات، مخطوطاً، بذور عمل روائي فـــيه فـــهو ايعج بالشخصيات الحيِّة، وهناك أبطال روائيون يمـــــلك كل واحد منـــهم رحلته الخاصة اعلى ما جاء في رسالة للصديق الشاعر والكاتب غسان زقطان الذي رافق هذه اليوميات وهي تُكتَب وكان جزءاً من مادتها وعالمها ولكني فضلَّت، أن يبقى ما جاء في دفاتر الحصار كما كُتِبَ أثناء الحصار من دون مزاعم أدبية.
' ' '
الملاحظات، المراقبة، التدوينات التي لا تخلو من اضطراب هي قوام هذه اليوميات. وهي يوميات تتخذ شكل كتابة سريعة مقتضبة، وربما منفعلة ومستطّردة، قائمة على الشخصيِّ الذي ينظر إلى العام من زاوية مخاوفه وأشواقه، هلعه وانفعالاته، غضبه وفرحه، إيمانه بالثورة وتساؤلاته عن مآلها. الذين وقفوا بلحمهم وأرواحهم أمام شفرة الفولاذ أجدر منا بالنشيد. فخر الذين كانوا هناك، إن جاز لي استخدام كلمة طنَّانة كهذه، أنهم عاشوا تلك اللحظة كلٌّ حسب ضربات قلبه وقوة أعصابه وتحديقة عينيه.
مضى وقت طويل قبل أن أعود إلى تصفّح هذه اليوميات.. ومضى وقت أطول قبل أن أقرّر نشرها، في كتاب، على علاتها.. إنها، إذن، الايقاع الذاتي المباشر، الذي لم يفكِّر في الجانب الأدبي، أو الزخرف البلاغي، عندما كان كلّ شيء يتراقص على الخيط الدقيق المشدود بين الحياة والموت. ها هو شاب يكاد أن يبلغ السابعة والعشرين من العمر يكتب، في أول حصار اسرائيلي لعاصمة عربية، بمفرداته القليلة ووعيه المحدود ما أملته عليه لحظته الراعفة. ها هما عينان، زائغتان حيناً وثابتتان حيناً آخر، تحدّقان في العاصفة الفولاذية التي ضربت نصف مدينة محاصرة من كل جانب. فقبل كل شيء علينا أن نتذكر أن بيروت التي أتحدَّث عنها لم تكن كلّ بيروت. كانت في الواقع مدينة منقسمة إلى شطرين يتبادلان الريبة والشكوك العميقة.. والرصاص أيضاً.
' ' '
استعادة هذه اليوميات من دفاتر قديمة تُذكّرني براحلين حصدهم الرصاص والقهر على أرصفة العالم بعدما نجوا من طوفان صهيون: معين بسيسو شاعر المواجهات والحصارات الذي كان يكتب مهتدياً بنبرة شعر المقاومة الفرنسية انفطر قلبه في فندق لندني في شتاء العام 1983، حنا مقبل (أبو ثائر) محرّر المادة السياسية في الصفحة الرئيسية في جريدة 'المعركة' اغتيل، على بعد خطوات مني، في نيقوسيا ربيع العام 1984، ميشيل النمري كاتب التحليلات السياسية والتحقيقات الميدانية الذي كان يطوف بسيارته البيجو 504 على مواقع المقاتلين كجنرال من الزنبق اغتيل في أثينا العام 1985، محمد هويدي الذي أقام جسراً من الأشواق بين مصر وفلسطين ولبنان في خواطره وقصصه القصيرة توقف قلبه بُعيد عودته الى مصر العام 1986، غالب هلسا الروائي الأردني المصري والعربي المجدد توفي نتيجة اهمال طبي في مستشفى دمشقي العام 1989 وعاد إلى وطنه الأم، بعد غيبة طويلة، في تابوت، ناجي العلي مبدع 'حنظلة'، الذي صار أيقونة رفض شهيرة، اغتيل في لندن عام 1989، سليمان صبح الناشر السوري صاحب 'دار ابن رشد' الذي طبع اسمي (وأسماء أخرى كثيرة) على أول كتاب لي بقي مع منظمة التحرير الفلسطينية إلى أن نهش السرطان صدره في تونس عام 1990، علي حسين خلف المحرّر الثقافي لـ 'الحرية' توفي في عمان العام 1996، عدلي فخري مغني الحرية والقصائد المبشّرة بغد كونيٍّ أفضل توفي بنزيف دماغي في القاهرة عام 1999، يوسف حسن (القزاز) الصوت الصارخ في برّية العرب عبر أثير الإذاعة الفلسطينية قنصه السرطان عام 2008 بعد نجاته من ميتات كثيرة، محمود درويش راوي التراجيديا الفلسطينية وأحد مؤسسي الهوية الوطنية والانسانية للشعب الفلسطيني توفي إثر عملية جراحية في مدينة هيوستن الامريكية عام 2008.. وأخيراً حلمي سالم الشاعر المصري المحبُّ للحياة حتى الموت مات بسرطان الرئة والفشل الكلوي معاً قبل أيام في مستشفى عسكري في القاهرة.
لا بدَّ أن هناك غير هؤلاء من المثقفين الذين زاملتهم أو عرفتهم أثناء الحصار قد حصدهم الموت، غضباً وقهراً ويأساً، بعد الخروج من بيروت ولكن هذه هي الأسماء التي تندفع إلى ذهني الآن.
' ' '
جدير بالذكر أنَّ يوميات الحصار، التي نشرتُ أجزاء منها في الذكرى العاشرة للاجتياح وفي الذكرى العشرين حملها، مع وثائق وأغراض شخصية لي، الكاتب والصحافي الأردني الصديق طاهر العدوان نائب رئيس الاذاعة الفلسطينية، يومذاك، إلى دمشق وتسلمتها منه لاحقاً، ذلك أنني غادرت بيروت براً (في مغامرة كادت أن تودي بي الى الهلاك بعدما ظننت أني نجوت من الهلاك) إلى بعلبك التي مكثت فيها أياماً في بيت أهل زوجتي ثم انطلقت منها إلى دمشق، ليبدأ بعدها تيهٌ آخر قد يكون شارف على نهايته مع الكسوف، المأمول، لشمس الاستبداد العربي السوداء.