محمد جابر الأنصاري

تعاني الثقافة العربية المعاصرة مشكلات عدة؛ أبرزها ldquo;الخفةrdquo; التي تؤخذ بها قضاياها، خاصةً في أوساط الشباب، تليها مشكلة ldquo;المثقفينrdquo; المحسوبين قادةً للثقافة العربية، وهم لم يتحرروا بعد من مشكلاتهم الشخصية! وأود التوقف لدى هذه ldquo;المشكلةrdquo; التي تنخر في جسمنا الثقافي العربي، مركّزاً على ظاهرة ldquo;أدونيسrdquo; الذي يعتبره البعض نموذجاً للمثقف العربي ldquo;القياديrdquo;!
ما يدعوني إلى ذلك المقالة التي كتبها قبل أسبوع بشأن: معاناة المتنبي في حلب. كانت المقالةndash; من أولها إلى آخرهاndash; محاولة ldquo;للعب على الحبلينrdquo;، فإن انتصر هؤلاء كان بها، وإن صمد أولئك فليكن! وهذا غير لائق أخلاقياً وإنسانياً، فقد نُشرت المقالة والمدينة تتهيأ ldquo;لأم المعاركrdquo; حيث يمكن أن يتضح الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ومن الواضح أن القصد من المقالة هو تجنب اتخاذ موقف من الصراع، مع إظهار ldquo;الاهتمامrdquo; بما يجري في المدينة وذلك غير مستغرب من الكاتب الذي غيّر موقفه مما يجري في سورية عدة مرات! لأسباب طائفية خاصة به، فقد كان مؤيداً للنظام، ثم انقلب عليه، ثم عاد إليه ومازال يضع رجلاً هنا ورجلاً هناك.
كان صاحبنا ldquo;علمانياًrdquo; حتى قيام الثورة الإسلامية في إيران، عندها انقلب إلى تأييدها وجرت بينه وبين المفكر السوري، أستاذ الفلسفة الجامعي، الدكتور صادق جلال العظم مواجهات فكرية يذكرها المثقفون العرب، فلما أسرفت الثورة في توجهها الديني، وجد أنه من الصعب عليه الاستمرار في تأييدها، فاتخذ موقفاً مضاداً.
وكان يمارس علمانيته في باريس بطريقة عجيبة، كان يلتقي بالشباب الخليجي المعجب ويقول لهم: ldquo;الأنظمة العربية كلها فاسدة، عدا النظام السوريrdquo;hellip; الذي ينتمي إليه طائفياً! وعندما كانت تحل ldquo;جائزة نوبل في الشعرrdquo; كل عام، كان يوحي لتلامذته أنه سينالها، فينشر ذلك في الصحف العربية، ويتم الإعلان عن الجائزة، وتذهب لغيره من الشعراء، وهو يعلم تمام العلم أن ldquo;نوبلrdquo; لا تذهب إلا لمن تصالح مع إسرائيل رسمياً، وهو ينتمي إلى دولة تسمي نفسها جبهة ممانعة ومحور مقاومة، وهو يؤيدها بحكم الصلة الطائفيةhellip; فكيف يستقيم الأمر؟ المعيب أنه يقف على باب ldquo;نوبلrdquo; كل عام ويشحذ الجائزة، باسم الثقافة العربية والمثقفين العرب.
وهو صاحب سجل حافل في المواقف ldquo;الإيديولوجيةrdquo; المتناقضة، في البداية كان قومياً سورياً من أتباع أنطون سعادة أيام سيادة المد القومي العروبي، وقد ساهم في حركة ldquo;مجلة شعرrdquo; في ذلك الوقت. ولا اعتراض على القائمين بها لقناعاتهم الإيديولوجية، ولكن ldquo;التجديدrdquo; الفني الذي زعموه كان رديئاً للغاية، فقد كان شعرهم الجديد، عبارة عن ترجمات ركيكة عن الإنكليزية أو الفرنسية أو الألمانية أو أي لغة أخرى.
وأدونيس كاتب ماهر ماكر، فهو صاحب أسلوب عربي سلس يتضح ذلك في كتاب ldquo;الثابت والمتغيرrdquo;، وليس مفهوماً لماذا أيد كاتب بهذا البيان الناصع ذلك ldquo;التجديدrdquo; الركيك؟
وقد ظل صاحبنا معادياً للتيار الناصري حتى وقعت الهزيمة، هزيمة 1967 فأصبح ldquo;ناصرياًrdquo; وأصدر مجلة ldquo;مواقفrdquo; في بيروت! وظل الرجل يغير مواقفه الإيديولوجية، وقيل إنه اعتنق المسيحية، ولكن ldquo;شيئاً ماrdquo; غلب عليه وجعله يؤيد النظام القائم في دمشق، فكثير من المسيحيين الشرفاء وقفوا موقفاً مغايراً، وقد علق أحد الخبثاء بأنه يستخدم المسيحية في لبنان، والإسلام في سورية!
وكما كان الرجل صاحب بيان ناصع، فقد كان شاعراً كبيراً، لابد من الاعتراف له بذلك، وقد كتب عنه الناقد الكبير المصري الراحل رجاء النقاش ldquo;أيها الشاعر الكبيرhellip; إني أرفضكrdquo;ndash; تأكيداً لشاعريته ورفضاً لأفكاره!
وقد أجريت معه عام 1996 ldquo;حوار المختلفينrdquo; في البحرين، وهالني أنه يرى أن كل موقف رفض في التاريخ الإسلامي، كما عبر عن ذلك في كتاب أطروحته ldquo;الثابت والمتحولrdquo;، أفضل من أي موقف آخر! وهذا يعني أن الخوارج كموقف رفض ldquo;متقدمونrdquo; على الإمام علي الذي حاربوا معه ثم انقلبوا عليه وحاربوهhellip; وقتلوه! وحقيقة الأمر أن ldquo;الخوارجrdquo; ينتمون إلى قبيلة تميم في شرق الجزيرة، ولم يكونوا يريدون الانتماء إلى دولة قريش، بل يريدون هدمها. قد تصوروا في البداية أن الإمام علي يريد هدم الدولة، فلما اكتشفوا أنه يريد إصلاحها لا هدمها، فهو قرشي، وله موقف مؤيد للدولة وسلطتها السياسية، كما عبر عن ذلك في ldquo;نهج البلاغةrdquo;: ldquo;لا بد للناس من أمير بر أو فاجرhellip; إلخrdquo; انقلبوا عليه وقاتلوه وقتلوه، رضي الله عنه.
وأدونيس بذلك الرأي قد ساير الموجة الثورية ldquo;السائدة عربياًrdquo; عندما كتب أطروحته، وقد حدثني أستاذنا الدكتور كرم رحمه الله، وكان مشاركاً في لجنة تحكيم الأطروحة في ldquo;اليسوعيةrdquo; أنه سأل أدونيس بصراحة ومباشرة: هل أن جذوره الطائفية أملت عليه ما أبداه في ldquo;الثابت والمتحولrdquo;؟ وقد كان الدكتور كرم كاثوليكياً محباً للأدب العربي، وكان يحدثنا بالفصحى حتى خارج الفصولhellip; وظل على هذا الموقف- لم يغيره- إلى أن توفاه الله في يونيو 1979م.
أكتب هذا، والبحرين بقي عليها ثلاثة شهور كعاصمة للثقافة العربية، وقد قامت وزارة الثقافة البحرينية بجميع الفعاليات الثقافية في الأشهر المنصرمة، والحق أن البحرين نالت هذه المكانة المستحقة بفضل جهود الشيخة مي بنت محمد آل خليفة وزيرة الثقافة حفيدة الشيخ إبراهيم بن محمد شيخ الأدباء ورجل النهضة الثقافية الأول. ولم يكن أدونيس ضمن المدعوين إلى أي فعالية، وسواء دعي واعتذر أو لم يُدع فالأمر سيان، والمهم أن يكون بعيداً عن هذا الحدث فحضوره لا يشرف أحداً، وقد كان حوله العديد من التلامذة والمعجبين والأتباع في البداية، لكنهم انفضوا واحداً بعد الآخر، وبعضهم كتب عما شاهد ورأى من تناقضاته ldquo;وتحولاتهrdquo;.
كتب الكاتب البحريني المعروف سلمان الحايكي مقاله المنشور في ldquo;أخبار الخليجrdquo; بتاريخ 19 مايو 2007 بعنوان ldquo;بعد أن خذله الزمن ومعطيات الكون أدونيس يفقد ميزة الإبداع وقوة التأثيرrdquo;، ويقرر الحايكي أنه كان مأخوذاً بشعر أدونيس مع أفراد جيله، ولكن هذا ldquo;الشاعرrdquo; فقد الكثير من تأثيره ldquo;وفي آخر زيارة للبحرين، لم يقدم الشاعر العربي الكبير أي جديد واكتفى بأمسية شعرية باهتة، قرأ فيها ما هو قديم، ولم يلاق اهتماماً كبيراً أو تجاوباًhellip;rdquo;.
ويقول الحايكي في نهاية هذه المقالة: ldquo;ومن واجبه اليوم أن يصدر بياناً يعترف فيه بجموده ويفتح الطريق لتلامذته، حتى يتحرروا، ويتنازل جذرياً عن دكتاتوريته ويكون على درجة عالية من الشفافية hellip;rdquo;.