محمد السعيد ادريس

حرص لبنان ldquo;الرسميrdquo; على أن ينأى بنفسه، قدر الممكن، عن الأزمة الملتهبة سخونة في سوريا خشية أن يكتوي بنيران بعض تداعياتها، لكن المرغوب شيء والواقع شيء آخر، ولأن ما رغب فيه لبنان ldquo;الرسميrdquo; كان مستحيلاً لعشرات وربما مئات الأسباب التي تربط سوريا بلبنان، فإن لهيب الأزمة السورية أخذ يمتد إلى العمق اللبناني، ونقصد القضايا الجوهرية اللبنانية، خاصة السياسة والحكم، والتوازن السياسي بين القوى السياسية الفاعلة والأمن والاستقرار، وفي مقدمته مشروع الحوار الوطني، وسلاح المقاومة، ودعوة إقامة منطقة عازلة في الشمال اللبناني . هذه الملفات المهمة جرى التعبير عنها عبر عناوين مختلفة كان أبرزها قضية الوزير والنائب الأسبق ميشال سماحة الذي اعتقل على أيدي شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي بتهمة من العيار الثقيل هي: ldquo;القيام بأعمال إرهابية بواسطة عبوات ناسفة والتخطيط لقتل شخصيات دينية وسياسيةrdquo;، وقبلها الطلب الذي تقدم به الرئيس اللبناني العماد ميشال سليمان من وزير الخارجية اللبناني عدنان منصور (من كتلة حركة أمل) توجيه مذكرة إلى السلطات السورية تتضمن احتجاجاً على خروقات واعتداءات قامت بها عناصر من الجيش السوري عبر قصف وقنص وغير ذلك ضد قرى وبلدان لبنانية حدودية .

الأمر لم يتوقف على ذلك بل امتد إلى إصدار قرار من المديرية العامة للأمن العام بترحيل 14 سورياً إلى بلادهم، وإلى تفاقم الأزمة الأمنية في مدينة طرابلس عاصمة الشمال اللبناني التي تتجدد يوماً بعد يوم عبر أحداث يربط بينها الاحتقان الطائفي والانقسام حول الأزمة السورية، كان آخرها حادثة مسجد ldquo;عيسى ابن مريمrdquo; في ميناء طرابلس بين عناصر من مجلس قيادة حركة التوحيد بقيادة الشيخ هاشم منقارة وعدد من أبناء حوش العبيد، ما لبث أن انضمت إليه عناصر سلفية، وكانت النتيجة هي سقوط أربعة جرحى، لكن ما هو أخطر هو ما تقود إليه مثل هذه الأحداث المتفرقة من تأزيم للاستقطاب الطائفي والانقسام السياسي لدرجة وصلت ببعض المتحمسين إلى إعداد خطة متكاملة ورسم خرائط على الورق لكيفية تنفيذ الهجمات على التنظيمات الإسلامية والعائلات التي تربطها علاقات ب ldquo;حزب اللهrdquo; في طرابلس، واحتلال مكاتبها ومنازلها ومؤسساتها تحت عنوان: ldquo;7 أيار ثانٍ يوحد البندقية السنية تحت مظلة 14 آذار، ويغلق كل البؤر الأمنية الأخرى التي تتناقض معها في التوجه السياسيrdquo; .

وهكذا بدأ لبنان يجد نفسه عالقاً، إما بإرادته أو بغير إرادته، في ldquo;مصعد الأزمة السورية على نحو توصيف البعض، وهي حالة شديدة السوء من شأنها أن تحوِّل لبنان في ظل العسكرة المتصارعة للأزمة السورية، إلى ساحة من مساحات المواجهة في هذه الأزمة أو إحدى جبهاتها على نحو ما قد يحدث بالنسبة للعراق الذي يمكن أن يتحول هو الآخر قريباً إلى ساحة من هذه الساحات ناهيك عن تركيا، وربما تكون هذه مجرد بدايات ليس إلا، إذا أخذنا في الاعتبار ما جاء على لسان ضابط ldquo;إسرائيليrdquo; كبير في مقابلة مع ldquo;وكالة يونايتدبرسrdquo; حول التقسيم العرقي والطائفي لسوريا إلى أربع دويلات، فقد كشف هذا الضابط عن وجود قناعة أو على الأقل، توقع لدى ldquo;الإسرائيليينrdquo; ب ldquo;نشوء كانتونات في سوريا، وإذا استمر الوضع بشكله الحالي فإنه سيكون هناك إقليم كردي في الشمال، وأصبحنا نرى مؤشرات ذلك، وإقليم علوي في منطقة الساحل يشمل مدينتي طرطوس واللاذقية، وإقليم درزي في جبل العرب إضافة إلى الإقليم السنيrdquo; .

تأسيس مثل هذه الأقاليم سيمتد بتداعياته وتفاعلاته الداخلية، حتماً، إلى جواره الإقليمي، أي الدول الملاصقة له، وسيختلف التأثير والتأثر حسب هوية هذا الإقليم العرقية والطائفية وهوية كل من هذه الدول المجاورة . وهنا يمكن توَقُّع أن نصيب لبنان من هذه التفاعلات سيكون ثقيلاً، وقد لا يقل عن نصيب كل من العراق وتركيا التي بدأت تعاني، من الآن، هذه التداعيات في ظل التطورات الخطرة التي تحدث حالياً في منطقة ldquo;المثلثrdquo; الحدودي العراقي - السوري - الكردي، بعد أن قام النظام السوري بالانسحاب من عدد من المدن والبلدان ذات الأغلبية الكردية في أقصى الشمال الشرقي من سوريا مثل المالكية والقامشلي وعامودا والدرباسية، ورأس العين، وعين العرب، وعفرين، وتسليمها إلى ميليشيات حزب العمال الكردستاني التركي المعارض المتحالف مع امتداد شكلي مع حزب الاتحاد الوطني الكردستاني العراقي بزعامة الرئيس العراقي جلال طالباني، هذه الخطوة استهدف النظام السوري من ورائها الضغط على أطراف أصابع رجب طيب أردوغان رئيس الحكومة التركية، وأن يلقي بكرة اللهب في أحضان المعارضة السورية المسلحة القريبة من أنقرة .

لم يعد ممكناً إذاً أن يبقى لبنان محتمياً بمقولة ldquo;النأي بالنفسrdquo; عن الأزمة السورية، فالانقسام والاستقطاب الوطني أخذ في التعمق، وأدوار القوى العربية والإقليمية في هذه الانقسامات والاستقطابات تتفاقم، ومواقف السلطة الرسمية اللبنانية، وبالذات رئاسة الجمهورية، أخذت تشهد تحولات، وإن كانت بطيئة، بالتحول عن الحيادية إزاء أطراف الأزمة السورية .

قد تكون حادثة اختطاف سوريين موالين للمعارضة السورية خاصة ldquo;الجيش السوري الحرrdquo; واختطاف أتراك رداً على اختطاف لبنانيين في سوريا مجرد مؤشرات لتفاعلات أشد خطورة أمنية وسياسية وإعلامية تنتظر لبنان . وذلك يؤكد أن لبنان أضحى مهيأً لمزيد من التفاعلات الساخنة التي تعكس امتداد بعض لهيب الأزمة السورية إلى الداخل اللبناني، أو إلى عمق الداخل اللبناني، خصوصاً في ظل تزامن الإعلان الصريح للقوى الإقليمية لمزيد من التورط في تفاعلات هذه الأزمة، بين من يؤكدون استحالة قبولهم بإسقاط بشار الأسد ونظامه، وبين من جعلوا إسقاط هذا النظام ورئيسه هدفاً نهائياً لهم .