محمد عبيد

التحذير الذي أطلقته السلطات التونسية مؤخراً، مما قالت إنه ldquo;احتقان مذهبي غريبrdquo; على المجتمع التونسي المتسامح الوسطي، على خلفية الاعتداءات المتكررة التي يرتكبها أنصار التيار السلفي في البلاد بحق تظاهرات وفعاليات ثقافية وسياسية، من ضمنها ما حدث في مهرجان الأقصى في بنزرت شمالي البلاد، عندما هاجم عناصر محسوبون على هذا التيار المهرجان المقام دعماً للقدس المحتلة وفلسطين، بالعصي والسيوف، مخلفين عدداً من الجرحى، ومحاولين الاعتداء على عميد الأسرى العرب المحررين من سجون الاحتلال ldquo;الإسرائيليrdquo; سمير القنطار، يؤشر إلى تطورات غير حميدة العقبى، في حال ترك الحبل على الغارب لمثل هذه المجموعات المتشددة الإقصائية، ويدعو التونسيين أنفسهم إلى العمل على تطويق ونبذ النافثين في نار الحقد المذهبي، والباحثين عن إثارة النعرات الطائفية في بلد لم نعهد فيه مثل هذا، ولا نريد له أن يتحول إليه .

وزارة الثقافة التونسية حذرت من ldquo;احتقان مذهبي غريب عن المجتمعrdquo;، واستنكرت ldquo;تواتر الاعتداءات على التظاهرات الثقافية في مناطق مختلفة من البلادrdquo;، التي تُنذر ب ldquo;منزلق خطير وغريبrdquo;، وأهابت بالتونسيين ldquo;التصدي لمثل هذه الظواهر المتطرفةrdquo; . لكن التحذير والاستنكار والمناشدة لا تكفي لوقف هذا السيل من الاعتداءات، ولا تكف أيدي العابثين في المشهد التونسي العام، بقدر ما تعطي صورة عن حالة من استغلال الوضع التونسي الجديد عقب الثورة، في تثبيت وجود جماعات لا تؤمن إلا بأحقيتها في وضع قيم ومبادئ دخيلة على مجتمع بأكمله .

ولو كان الأمر اختلافاً في الرأي ldquo;لا يفسد للود قضيةrdquo;، لما استحق النظر إليه، بقدر الإشادة به، كأمر طبيعي في مجتمع ثار على نظام تسلطي حرمه عقوداً من أبسط مبادئ حريات وحقوق الإنسان، لكنه تعدى كل الخطوط الحمراء، عندما بدأت محاولات فرض الرؤى والآراء بقوة السلاح الأبيض، وعدد من المتشددين الذين يعتبرون أنفسهم ldquo;وكلاء حصريينrdquo; للفضيلة، وحماة للدين الإسلامي، وهو منهم براء، وفي سبيل ذلك يستخدمون القوة، بدلاً من الحوار، والسلاح بدلاً من الكلمة، ويحاولون بث سموم التطرف، وحقن المجتمع ب ldquo;فيروسrdquo; اسمه المذهبية، والمعروف تاريخياً عن تونس، كما كثير غيرها من الدول العربية، متانة النسيج المجتمعي، ورفضه لمثل هذه الأفكار الدخيلة .

الأدوات المستخدمة في تأجيج نار الفتنة في تونس تؤكد بشكل قاطع المساعي المحمومة لتكبيل الحريات والحقوق، التي ناضل التونسيون من أجل الحصول عليها، وواجهوا آلة القمع بكل الوسائل السلمية من أجل تثبيتها واقعاً طالما كان لهم بمثابة حلم جيل بعيد المنال . وتشي بمحاولات لإعادة إنتاج النظام التسلطي، بصيغة أخرى، وعلى أنقاض مجتمع يحاول هؤلاء تمزيق نسيجه المتجانس، ومن ثم إشعال النار فيه، ورغم كونها - حتى الآن - حالات فردية أو غريبة كما تقول السلطات، إلا أن ذلك لن يمنع مستقبلاً من تفاقم الأمر، وتحوله إلى حالة، أو عصا تلوح باستخدامها أطراف داخلية أو خارجية، في وجه معارضيها والمختلفين معها .

على السلطات في تونس الخضراء أن تتحرك بشكل فعلي، وتخرج من إطار التوصيف والنقد والتنديد، بممارسات تحاول إشعال الفتنة، واختلاق الأزمات، وتفتيت المجتمع المتجانس، إلى دائرة الفعل، عبر فتح قنوات الحوار مع مختلف المجموعات الفكرية والسياسية، لبناء جبهة واسعة ضد التطرف وتكميم الأفواه، والتعاطي مع مثل هؤلاء بشيء من الحسم والحزم . وعلى التونسيين أنفسهم واجب تطويق مثل هذه التوجهات المتشددة، من خلال التمسك بمنجزات الثورة، ووحدة الشعب التونسي، وقيم الحرية والديمقراطية، ولفظ كل عنصر دخيل يحاول بث الفتنة بين صفوفهم، تحت عناوين كثيرة، ليس أقلها خطورة التشدد الديني