صالح عبد الرحمن المانع
دعا خادم الحرمين الشريفين في مؤتمر القمة الإسلامي الاستثنائي الذي عقد في نهاية شهر رمضان المبارك إلى التضامن الإسلامي وإنشاء مركز متخصص تحت مظلة منظمة التعاون الإسلامي من أجل حوار جاد بين المذاهب الإسلامية المختلفة، يتخذ من مدينة الرياض مقراً له.
والحقيقة أن الملك عبدالله منذ أن اعتلى سدة الحكم قبل عشر سنوات وهو يدعو إلى الحوار سواء داخل الوطن السعودي، أو بين الأديان المختلفة (في إسبانيا وتركيا والنمسا)، أو اليوم بين المذاهب المختلفة.
ونحن نعيش اليوم في عصر طغت فيه العواطف على العقل والمنطق، فقد كانت العصور الماضية، عصور ظهور إيديولوجيات سياسية خاصة بالوطنية التي سعت إلى التحرر من الاستعمار للوصول إلى تنمية حقيقية ونهضة للإنسان، ثم تلتها حقبة القومية التي دعت إلى توحيد الصفوف على أساس قومي بغض النظر عن المذهب أو الدين، فالجميع أبناء وطن واحد، ينتمون إلى أمة عريقة ذات تاريخ مجيد، ويمكن إعادة بنائه من جديد. أما في العصر الحاضر ومنذ ثلاثة عقود، فإن الصوت الديني هو الصوت الذي يهيمن على الساحة السياسية من إندونيسيا وحتى المغرب، وربما أيضاً إلى بعض المدن الريفية الأميركية.
فظاهرة التدين الجديدة ليست ظاهرة دينية أو خشوعية بحتة بل هي ظاهرة سياسية يغلب عليها الاعتزاز المفرط بالذات وتحقير وتصغير قيم الآخرين ومعتقداتهم، أو قد يصل الأمر إلى الغلو والتزمت وإقصاء كل رأي منافٍ لمعتقد الشخص وقيمه. بمعنى آخر لقد تحول الجدل الفقهي القديم واختلاف الآراء إلى تصارع عقيم بين عدد كبير من أنصاف المتعلمين الذين لا يفقهون كثيراً من العلم أو الفقه، سوى تحريض الجماهير وشحن عواطفها وتجييشها لخدمة غرض سياسي يقود إلى وصول بعض من هؤلاء الأشخاص المتدينين، أو الممتطين للدين، إلى مناصب سياسية مرموقة، أو إلى خدمة هدف قومي غٌلّف بمطلب ديني.
وفي عصور الإسلام الأولى كان الفقهاء والمجتهدون يجتمعون في المساجد ويناقشون آراءهم وأفكارهم مع بعضهم بعضاً بمنتهى الحرية، وربما نعت بعضهم بعضاً بـquot;الزندقةquot; ولكن في أطر محدودة وفي مجالس للخاصة، وليست للعامة. أما اليوم فقد اتخذ هؤلاء المتأدلجون الإعلام مطية لهم كي ينقضوا على خصومهم ويصفونهم بأبشع الأوصاف.
وحاول كثير منهم تحويل أجندات سياسية ودعايات انتخابية إلى حملات إعلامية دينية شرسة ضد بعضهم بعضاً، ووصل الأمر بالبعض منهم إلى استخدام الشعراء والمغنين، للغمز واللمز وهجاء بعض الرموز الدينية.
ولا يختلف اثنان على أن التنافس السياسي بل والصراع يحتاج إلى آلة إيديولوجية تحمل أفكاره وتروج له بين العامة قبل الخاصة، كما لا يختلف اثنان على أن الدين أو المذهب هما من أسهل هذه الآلات استخداماً واختراقاً للعقول والأفئدة، لأن الإنسان بطبيعته الإيمانية، لا يفرض على مثل هذه الدعوات السياسية منطق التمحيص والاختبار، إن هي جاءت ممزوجة ومتمظهرة بمظهر ديني. ومع ذلك كلّه، فإن مزج الدين أو المذهبية بمزاج ديني أشبه بصب البارود على النار، فهو بذلك أقرب إلى الانفجار في العواطف وخاصة في ظل احتقان ديني وعاطفي هائل تعج به المنطقة العربية، أو الشرق كافة.
هل هذا يعني أن الحوار سيقضي على الشقة والتباعد السياسي، والإجابة بكل بساطة هي بالنفي، فالشقاق والصراع على مناطق النفوذ هو مسألة أصيلة في علاقات الدول، التي لا تتميز على الدوام بعلاقات سلم إيجابية بل إن الحرب تعد جزءاً من العملية السياسية كما يعرفها أي طالب مبتدئ في العلوم السياسية.
غير أن فصل كل ما هو سياسي عما هو ديني يرفع الغطاء الشرعي عن الصراعات والحروب، سواء كانت أهلية أم دولية، ويعيد العمل والصراع السياسي إلى بوتقته الأصيلة، ويحوّله من إشكالية سياسية معقدة لا حلّ لها، إلى مشكلة سياسية يمكن إيجاد حلول سياسية دبلوماسية لها، لا ترقى بالضرورة إلى مرحلة الحرب.
وبمعنى آخر فإن الطلاق المطلوب بين كل ما هو سياسي وديني يجعلنا أكثر قرباً من المدنية، وحلولها العقلانية الوسطى للصراعات البشرية، أو للصراعات بين الدول في محيطها الإقليمي أو الدولي.
وربما يدفع ذلك المرء للقول إن للحوار بين المذاهب فضائل أخرى، لن يكون من بينها التقارب المذهبي وحده بالضرورة، ولكن سيجعل المتنطعين والمتطرفين فيها أقرب إلى العزل منهم إلى القبول برئاستهم، وانقياد العامة إلى آرائهم والنزوع إلى القبول بطروحاتهم، كما لو كانت طروحات لا يمكن الطعن بها.
والمجتمعات البشرية، والعربية منها، عرفت على الدوام احترام الآخر ومعتقداته ومذهبه، والتعايش السلمي بين جميع أتباع هذه المذاهب. وحين تزور بعض المدن العربية ستجد كنيسة بجانب المسجد، ومسجداً للإسماعيلية بجانب مسجد للسنّة، وهكذا دون أن يعتدي أحد على مكان عبادة الآخر، أو أن يستهزئ بقيمه ومعتقداته.
بل لقد وصل الأمر أن تتزوج أمرأة من مذهب برجل من مذهب آخر، وأن ترضع أماً طفل جار أو جارة لها من مذهب آخر، دون أن يروا في ذلك معيبة أو شانئة.
هكذا هي البشرية تواد وتراحم وحوار ضمن أطر أخلاقية وقانونية، وستظل السياسة بصراعاتها تحاول أن تستولي على جميع الأطر الإيديولوجية وتسيّرها لصالحها.










التعليقات