أحمد عبد الملك

سجّل لنا التاريخ صفحات كثيرة من ممارسات البطش التي قامت بها محاكم التفتيش في أوروبا التي غالت في quot;تكفيرquot; العلماء والفلاسفة والفنانين مثل: غاليليو، جيور دا، ونوير نو، وديكارت، وفولتير. بل إن بعض هذه المحاكم صادرت وأحرقت إنتاجهم الأدبي والفلسفي والفني. ومع ذلك انتصر ذاك النور الذي بشّروا به، وسعدت البشرية بآرائهم وإنتاجهم العلمي والفلسفي والأدبي والفني، حتى أضحى ذلك مدارس ما زالت تزخر بها الجامعات الراقية في أوروبا وأميركا.

وجاءت المرحلة الإسلامية كي تمارس الأنظمة الاستبدادية المتطرفة -عبر العصور القديمة والوسطى- نفس ممارسات محاكم التفتيش الأوروبية، من حيث: قتل الطبري، وصلب الحلاج، وحبس المعري، وسفك دم ابن حيان، وحرق الكتب النفيسة لابن رشد، والأصفهاني، والتنكيل بابن المقفع والجعد بن درهم وابن الخطيب، وغيرهم من العلماء المسلمين الذين أثرَوْا المكتبة الإنسانية بأنفس الكتب والإنتاجات الفنية والعلمية. وهو ما تعرّض له الخوارزمي، والبيروني، والكندي، وابن الهيثم، والغزالي، والسهروردي، وابن طفيل، والجاحظ وغيرهم.

وبمناسبة رفض الرأي الآخر، وبعد أن شاهدنا مسلسل quot;عمرquot; رضي الله عنه، في رمضان الفائت، ندرك كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حاربه قومهُ من قريش، وألقوا السوء عند باب داره، وحاكوا له المؤامرات مع اليهود والمرتدين، بل إن زعماء قريش وأشرافها هم من حملوا السيف ضده في غزوتي بدر وأحد، وأن هؤلاء هم الذين قطّعوا أوصال أوائل المسلمين مثل عائلة آل ياسر، وتعذيبهم لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

وتلك هي صيرورة الزعامة وحاكمية السلطة قديماً! إذ إن هذه الزعامة -التي تمثلت في الكنيسة في أوروبا وروما القديمة- هي نفسها التي تجلّت في معاقبة أهل الدين الجديد في مكة والمدينة! حيث شكّل الدين الجديد تهديداً لتلك الزعامة وحاكمية السلطة في قريش، حيث سحبها الإسلام منها، لأنها كانت قائمة على روح الجاهلية والممارسة غير الإنسانية كالاسترقاق، والحق في الإماء، والغش في التجارة، وشرب الخمر، وأخذ السحت، وعبادة الأصنام.

وهي نفس صور الزعامة والسلطة في القرون الوسطى التي أصابت العلماء والمفكرين المسلمين والعرب على أيدي بعض الزعماء الذين رأوا في تلك الأفكار النيّرة التي أتى بها هؤلاء الفلاسفة والعلماء والأدباء والفنانون انتقاصاً لأدوارهم، وتقرباً من الجموع لهؤلاء المبدعين ودعوتهم إلى شيوع أفكار العدالة والفضيلة واحترام الآخر، وتقدير دور العقل في قضايا الرأي. ووصل الأمر بكتّاب التاريخ من السياسيين اللاحقين إلى تهميش أدوار هؤلاء المفكرين والفلاسفة والأدباء والفنانين المسلمين والعرب بدعاوى واهمة، لأن وجود صور هؤلاء في الذاكرة المجتمعية وعلى طوابع البريد أو العملة قد يساهم في اهتزاز صورة الزعامة والسلطة، التي يجب أن تُقتصر على الحكم ولا أحد غيره.

وفي العصر الحديث تتجلى صورة الزعامة والسلطة ومحاكم التفتيش في quot;Lookquot; جديد وبأنامل ناعمة، كي تبقى تلك الصورة ماثلة في أعين الشعوب، ويظل الخوف من ذكر الرأي الآخر أو الفكرة الأخرى أو الجديدة، مسيطراً على الجموع.

الـ quot;New Lookquot; في محاكم التفتيش العربية كشفت عنه الثورات العربية! بعد أن ظلت الشعوب تصطلي بنار تلك المحاكم لأربعين أو ثلاثين عاماً، دون أن يساعدها الوقت والواقع على التحرك من أجل نيل حقوقها والمطالبة بتغيّر النظام. حتى أشعل البوعزيزي الشرارة الأولى في جسده، فانطلقت الثورات تترى في الجمهوريات العربية. وسقطت كل الأسوار الحديدية التي أنشأها الطغاة في أكثر من بلد عربي، وسقطت حاكمية السلطة. إن الـNew Look في محاكم التفتيش العربية أجبر المفكرين على الهجرة إلى أوروبا ! فكم من عالم وفنان وأديب عراقي قصد أوروبا خوفاً من بطش صدام حسين ومحاكمه! وكم من مفكر وباحث وعالم سوري لم تتحمله الحكومة المتسلطة ولم يستحملها هامَ على وجهه في أوروبا وأميركا بحثاً عن الأمن والاستقرار والعيش الكريم. وكم من عالم وباحث وأكاديمي مصري هجر بلاده وقصد أوروبا وأميركا كي يأخذ حريته في تطبيق بحوثه ونشر علومه بحرية ودون مضايقات من محاكم التفتيش؟

وكم من المبدعين والمفكرين في جمهوريات العالم العربي يتعرضون لما تعرّض له أسلافهم من quot;محاكم التفتيشquot;، ولكن بأسلوب جديد، له مبرراته عند أصحاب تلك المحاكم، وله أساليبه التي quot;تُخْصيquot; البطولات، كما قال الشاعر العربي الكبير نزار قباني. بحيث يبقى المجتمع دون هُداةٍ أو مفكرين أو فلاسفة أو أدباء ينيرون له الطريق نحو الحياة الآمنة المستقرة، في ظل مناخ ديمقراطي يعزز الحريات ويصون كرامة البشر.

إذن فمحاكم التفتيش امتدت من روما القديمة وأوروبا والأندلس وطهران وبخارى وبغداد لتصل إلى جمهوريات المنطقة العربية وبموضات مختلفة ومتلونة، إلا أنها في النهاية تهدف إلى قتل الإبداع، وقمع الرأي الآخر، ومحاربة كل من يأتي مخالفاً لمحتويات quot;تابوت التاريخquot;، وإن كانت تلك المحتويات من أسوأ المقتنيات.