يحيى الأمير


تحول الجهاد لدى كثير من الجماعات الإسلامية التي عرفها التاريخ المعاصر إلى جزء من أزمة وليس جزءا من حل، بل أسهم كثيرا في تغييب الصورة الحقيقية للجهاد الإسلامي

ليس فقط الشاب السعودي مازن المساوى، الذي ترددت أنباء عن إعدامه في العراق، قبل يومين، هو الاسم الوحيد بين أبنائنا الذين ذبحوا شبابهم وأحلام آبائهم وأمهاتهم، وهم يتجهون للعراق أو لليمن أو لغيرها من البلدان تحت طائلة البحث عن الشهادة. ليتحولوا هناك إلى وقود لصراعات وحسابات دامية، بل إلى بضاعة رخيصة تباع وتشترى على قارعة الفتنة.
منذ سنوات، وملف السعوديين في المحتجزين في الخارج على ذمة قضايا تتعلق بالإرهاب يشغل بال المجتمع ووسائل الإعلام ووزارة الداخلية والهيئات والجمعيات الحقوقية وغيرها من الجهات المعنية بالأمر، لكن وسط ذلك الانشغال كان ثمة سؤال يدور في أذهان الجميع: لماذا ينصاع بعض الشباب السعودي أكثر من غيره لدعوات الجهاد والنصرة والبحث عن الشهادة، ولماذا يمكن إغراؤه أكثر من غيره بتلك الدعوات؟
في الواقع أن ثمة جانبا في تربيتنا الدينية يحتاج للمراجعة وإعادة النظر، ويتمثل في الأفكار المطلقة التي لا تضع اعتبارا للسياق ولا للظرف، فالجهاد من الأفكار والقيم الإيجابية والهامة في الإسلام، إلا أنه يتم طرحه بشكل مطلق، يؤدي ذلك إلى تغييب ما هو مناسب وخلطه بما ليس مناسبا، بمعنى أن الفكرة المطلقة تسيطر على كل الظروف والاعتبارات التي يجب الأخذ بها عند التعامل مع أي فكرة. فمفهوم الجهاد من المفاهيم التي تتأثر بالتحولات الاجتماعية والسياسية والواقع الجديد للعالم، ففي زمن الدولة الحديثة لا يمكن التعامل مع الجهاد على أنه شأن فردي، وفي زمن الحدود والدول لا يمكن أن تكون فكرة الجهاد عابرة للحدود وقابلة للقفز على الواقع، مما يعني أن إطلاق مفهوم الجهاد والدعوة إليه يجب أن يضع في الاعتبار كل السياقات والمستجدات والظروف المحيطة به، وكلها لو تمت قراءتها كما يجب فسيتم التوصل إلى أن الصورة الموروثة للجهاد لم تعد قابلة للتطبيق. ولا بد من صور جديدة تلائم الواقع وتحولاته.
إن أبرز أزمة أصابت الفكر الإسلامي وبالتالي الخطاب الإسلامي هو عدم استيعابه أحيانا للتحولات مما أدى إلى جمود كثير من المفاهيم ووصولها إلينا بذهنية الظرف التاريخي الذي انطلقت منه، لتحدث الأزمة الحقيقية بين المفهوم وبين التطبيق. وهو ما يمكن أن ينسحب على كثير من المفاهيم الدينية التي عجز الفكر الإسلامي عن إعادة قراءتها وإنتاجها مفاهيميا وفق الواقع، واتجه إلى تصديرها فقط من التاريخ ومن التراث إلى الواقع. ولا مبالغة إذا قلنا إن الجانب الأكبر من الخطاب الدعوي المعاصر يقع تحت طائلة هذا الخلط بين واقع المفهوم وبين قيمته التاريخية وقيمته الدينية. وبالتالي فنحن أمام جانب من الخطاب الديني ينتمي للماضي على مستوى المفهموم والرؤية ولا ينتمي للحاضر إلا من خلال إنزال ذلك الماضي عليه بعيدا عن أية اعتبارات للظرف والزمان.
المشكلة الكبرى أن الخطاب الديني الموجه للجماهير ينتمي في كثير منه لهذا الإشكال ولذا ففي الغالب حين يقوم هذا الخطاب بتناول أية قضية معاصرة أو حين يسعى لعلاج أية قضية معاصرة غالبا ما يقع في ارتباك واضح بسبب أن مهمته تتلخص في إنزال أحداث الماضي على الواقع دون النظر للفرق بين المرحلتين والزمنين.
يمكن القول إن مفهوم الجهاد أبرز مثال على تلك المعادلة، فلقد تحول الجهاد لدى كثير من الجماعات الإسلامية التي عرفها التاريخ المعاصر إلى جزء من أزمة وليس جزءا من حل، بل أسهم كثيرا في تغييب الصورة الحقيقية للجهاد الإسلامي.
كل ذلك لا يلغي أن لدينا خطابا دينيا يستوعب كثيرا هذه الأزمة، إلا أنه لا ينتبه كثيرا إلى ضرورة مواجهتها، إنه بحاجة قبل أن يخاطب الجماهير أن يتجه إلى كشف مواقع الخلل في خطابنا الديني الذي تخلى في بعض جوانبه عن القيم العليا للإسلام التي تجعل من الإنسان قيمة عليا للحياة وليس للموت.