عبدالله المدني

لا نقصد بشجاعة الأتراك هنا موقفهم المبدئي من الثورة السورية، ولا احتضانهم لمئات الآلاف من السوريين الهاربين من قمع النظام الأسدي في الوقت الذي سدت فيه بعض الأنظمة العربية حدودها أمام هؤلاء، ولا تنسيقهم مع القوى الغربية للتمهيد لمرحلة ما بعد سقوط الأسد وزمرته، ولا مطالبتهم المستمرة بفرض منطقة حظر جوي، ولاتماهيهم مع المعارضة السورية حيال مبدأ أن تغيير النظام في دمشق هو شرط أولي لإنهاء النزاع.

لكننا نعني الموقف الشجاع الذي اتخذه الرئيس عبدالله جول حيال الدعوة التي وصلته من نظيره الإيراني لحضور قمة عدم الانحياز الأخيرة في طهران. فبينما سارعت دول عربية عديدة، بما فيها تلك التي تسود علاقاتها مع النظام الايراني غيوم سوداء قديمة وحديثة جراء تحريض الأخير عليها أو التدخل في شؤونها الداخلية أو الادعاء بالسيادة على كل أو بعض ترابها الوطني، للمشاركة في القمة المذكورة وتجاهل دعوات نخبها الفكرية بضرورة المقاطعة من باب الاحتجاج على سياسات طهران العربية، ولا سيما سياساتها تجاه سوريا المنكوبة بالدماء والأشلاء والخراب، تجاهلت أنقرة الدعوة الإيرانية وقررت عدم المشاركة متذرعة بمرض رئيسها وتعارض مواعيده مع موعد عقد القمة، بل وأضافت أن وزير خارجيتها لن يشارك أيضاً، علماً بأن تركيا ليست عضواً في الحركة، وبالتالي فإن القصد من الدعوة المذكورة هو حشد أكبر عدد من القادة في طهران.

وسواء أكانت بواعث القرار التركي هي تسجيل موقف مستقل، أو النأي بالنفس عن قرارات قد تصدر عن القمة لصالح النظام السوري وداعميه الإقليميين والدوليين، أو كانت بفعل ضغوط من الولايات المتحدة والدول الغربية التي حثت حلفاءها على عدم المشاركة في قمة طهران كي تقطع الطريق على الأخيرة للخروج من عزلتها المريرة والإدعاء بانفتاح نحو مائة وعشرين دولة عليها رغم أنف quot;قوى الاستكبارquot;، أو كانت من باب المناكفة والصراع على قيادة العالم الإسلامي في زمن تراجع فيه نفوذ العرب لجهة التأثير في القضايا الإقليمية، فإن أنقرة كانت شجاعة بكل ما في هذه الكلمة من معنى، خصوصاً وأنها تعتمد في جزء معتبر من وارداتها النفطية على إيران (70 بالمئة من احتياجاتها النفطية تأتي من إيران وروسيا)، دعك من مسألة أخرى هي قضية أكراد تركيا التي يمكن لطهران أن تحركها وتلعب بها كورقة للإضرار بأمن واستقرار تركيا مثلما فعل ويفعل النظام الأسدي.

البعض فسر القرار التركي على أنه تهرب من احتمالات التقاء عبدالله جول مع نظيره الرئيس السوري بشار الأسد (في ما لو قرر الأخير المشاركة شخصياً في القمة)، قائلاً إن الاتهامات التي كالها الأخير ووزراؤه وإعلامه للرئيس التركي ورئيس حكومته رجب طيب أردوغان، والمفردات النابية التي قيلت في حقهما أوجدت حالة من العداء والشكوك والمرارة التي لا يمكن تبديدها أو محوها بسهولة.

لكن البعض الآخر أضاف أيضاً مسألة أخرى هي احتمال أن يكون للقرار التركي صلة برغبة الرئيس التركي في تجنب الالتقاء بالرئيس المصري محمد مرسي، الذي يتخذ موقفاً مغايراً لموقف الاتراك لجهة مشاركة دول حلف الأطلسي في إنهاء الأزمة السورية، بدليل إصراره على حل الأزمة من خلال الحوار بين المعارضة السورية والنظام الأسدي عبر الأمم المتحدة. وما دعوته أثناء قمة منظمة التعاون الإسلامي الأخيرة في مكة لتشكيل لجنة من كل من إيران والمملكة العربية السعودية ومصر وتركيا لإيجاد حل للمعضلة السورية إلا تجسيد لهذا الإصرار. هذه الدعوة التي تجاهلتها أنقرة تماماً ولم تتحمس لها أو تعلق عليها، الأمر الذي يثير فرضية أن يكون للغياب التركي صلة أيضاً برغبة أنقرة في النأي بنفسها عن لجنة مرسي المقترحة.

السؤال المطروح الآن هو عن تداعيات هذا الموقف التركي على علاقات وروابط طهران بأنقرة المتذبذبة أصلاً. فعلى الرغم من الزيارات المتبادلة بين مسؤولي البلدين، والاتفاقيات التي تربطهما، وتصريحات مهندس السياسة الخارجية التركية quot;أحمد داوود أوغلوquot; من أنه متفائل بمستقبل العلاقات الإيرانية - التركية، فإن الواقع يقول إن هذه العلاقات يظللها تنافس حاد ليس على الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية فقط، وإنما على الصعيد الإيديولوجي المغلف بثارات العصور الماضية أيضاً. وليس خافياً على أحد أن صراع الدولتين إيديولوجياً أطل برأسه مؤخراً بصورة واضحة بسبب ما تشهده منطقة الشرق الأوسط من تخندقات واحتقانات طائفية ومذهبية بغيضة، وهي ما وضعت تركيا في موضع المدافع عن أتباع الإسلام السُني مقابل دفاع إيران عن أتباع الاسلام الشيعي كما هو معروف.

وبطبيعة الحال، نظر الكثيرون إلى مواقف أنقرة هذه، وتحركات قادتها ومسؤوليها على الساحة العربية مؤشراً على رغبتها في استعادة دورها التاريخي في المنطقة وأمجادها زمن الدولة العثمانية، بعدما فشلت كل محاولاتها طيلة العقود الماضية لإيجاد موطئ قدم لها ضمن الاتحاد الأوروبي. غير أن هذه الرؤية لئن كان فيها بعض الصحة، فإنها ليست صحيحة بالكامل. فالسياسة الخارجية التركية، وفق ما رسمها quot;أوجلوquot;، تقوم على توطيد أقدامها في العالمين العربي والإسلامي وتعزيز روابطها بهما، والتكامل معهما، مع عدم إغفال روابطها الإستراتيجية القديمة مع أوروبا والغرب عموماً. وما حرصها على البقاء ضمن منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) والتماهي مع الخطط العسكرية للأخيرة مثل مشروع إقامة درع مضادة للصواريخ فوق الأراضي التركية، الذي أغضب الإيرانيين والروس معاً، إلا دليل على صحة مانقول.

وجملة القول إن تفاؤل quot;أوجلوquot; حول علاقات بلاده بإيران ليس في محله، تماماً مثلما لم يكن تفاؤله بتحول بلاده من الاقتصاد السابع عشر إلى الاقتصاد العاشر في العالم في غضون سنوات قليلة في محله. فالرجل الذي يقود الدبلوماسية التركية بديناميكية مدهشة منذ 2009، ويثير الجدل منذ إطلاق كتابه المعنون بـ quot;العمق الإستراتيجيquot;، راهن كثيراً في رؤيته تلك على التكامل الاقتصادي الإقليمي ضمن quot;منظمة التعاون الاقتصاديquot; المكونة من أفغانستان وباكستان وإيران وأذربيجان وتركمانستان وطاجيكستان وأوزبكستان وقرغيزستان وكازاخستان. وكل هذه الدول لا تشكل رقماً مهماً في الاقتصاد العالمي، ربما باستثناء الأخيرة التي ورثت من الاتحاد السوفييتي السابق بعض ملامح التقدم الصناعي والتكنولوجي، وتملك ثروات أولية هائلة.