القاهرة

بقدر ما أثارت قرارات الرئيس المصري الدكتور محمد مرسي إحالة عدد من كبار القادة العسكريين للتقاعد من ارتياح لدى عديد من القطاعات والقوى في الشارع السياسي المصري، فإنها أثارت قلقاً واسعاً ومخاوف لدى قطاعات أخرى من أن تكون بمثابة تكريس لجميع السلطات في يد رئيس الدولة وجماعة الإخوان المسلمين التي ينتمي اليها رأس الدولة، أثارت المزيد من الشكوك حول السعي ldquo;لأخونةrdquo; أجهزة الدولة ومفاصلها، بعد قرار الرئيس مرسي تشكيل فريقه الرئاسي قبل أيام، وظهر أن الإسلاميين استحوذوا على حصة الأسد في هذ الفريق إن كان على صعيد المستشارين أو المساعدين، خاصة أن قرارات الإطاحة بالقادة العسكريين وعلى رأسهم وزير الدفاع السابق، رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة السابق، المشير حسين طنطاوي، ونائبه الفريق سامي عنان، رئيس الأركان السابق، صاحبها قرارات رئاسية حصل بها مرسي على سلطة التشريع التي منحها قادة المجلس العسكري لأنفسهم بموجب الإعلان الدستوري المكمل الصادر في يونيو/ حزيران الماضي، وهو الإعلان الذي قرر مرسي إلغاءه، واستبدل به إعلاناً جديداً يضع سلطة التشريع في يد رئيس الدولة لحين إجراء انتخابات نيابية جديدة رهنها القرار الرئاسي بالانتهاء من إعداد الدستور الجديد للبلاد كما يمنح الرئيس سلطة إقرار الموازنة العامة للدولة وحق تكوين جمعية تأسيسية جديدة للدستور، خلال 15 يوماً، إذا قام مانع يحول دون استكمال الجمعية الحالية لعملها .

الرئيس المصري سارع إلى طمأنة ممثلين لمختلف القوى والأحزاب السياسية بأنه لن يستخدم سلطة التشريع إلا في أضيق الحدود، وبالتشاور مع القوى السياسية حول التشريعات التي ترى مؤسسة الرئاسة أن هناك حاجة لإصدارها دون انتظار لتشكيل البرلمان الجديد، لكن تطمينات مرسي لم تنجح في دفع المخاوف التي انتابت قطاعاً واسعاً من السياسيين والنشطاء المصريين، وعبروا عنها علانية، من أن تشهد المرحلة المقبلة إعادة إنتاج لسياسات وممارسات النظام السابق عبر تكريس جميع السلطات في يد رأس النظام الجديد محمد مرسي، خاصة أن هذه المخاوف تزداد يوماً بعد الآخر في ظل ممارسات من قبل جماعة الإخوان المسلمين، اصطلح على وصفها بأنها تستهدف ldquo;أخونةrdquo; الدولة المصرية والسيطرة على مفاصلها المهمة كالإعلام والقضاء والتعليم، فضلاً عن غلبة تمثيلها داخل الجمعية التأسيسية لإعداد الدستور الجديد .

وتقول القوى السياسية المناهضة لسيطرة جماعة الإخوان على مفاصل الدولة المصرية إن مخاوفها لا تنبع من فراغ، وإنما تستند إلى ممارسات جرت على أرض الواقع، وبدأت منذ تشكيل الجمعية التأسيسية ldquo;الأولىrdquo; لإعداد الدستور، والتي جرى حلها بقرار قضائي، ثم مع تشكيل التأسيسية ldquo;الثانيةrdquo;، وامتدت إلى قطاع الإعلام عبر التدخل في حركة التغييرات التي طالت قيادات الصحف الحكومية، على الرغم من الرفض الواسع بين الصحافيين لسيطرة مجلس الشورى ldquo;الغرفة الثانية من البرلمانrdquo; على تحديد مصير الصحافة الحكومية، وما تلا ذلك من إقدام رؤساء التحرير الجدد من استبعاد مقالات رأي لعدد من كبار الكتاب والصحافيين ldquo;كما جرى في صحيفة الأخبارrdquo; أو إلغاء أبواب صحافية ناقدة لجماعة الإخوان ldquo;الأهرامrdquo;، وعلى الرغم من أن حزب الحرية والعدالة ldquo;الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمينrdquo; بدا أقرب إلى الوفاء بتعهده بعدم الحصول على الأغلبية في التشكيل الوزاري الأخير، إلا أن التشكيل أسند إلى عناصر تنتمي لجماعة الإخوان المسلمين أو مقربة من الجماعة إدارة وزارات مؤثرة كالإعلام والعدل والتعليم، وأخرى ترتبط بقطاعات جماهيرية واسعة كالقوى العاملة والشباب، فضلاً عن أن التشكيل لم يضم من ممثلي الأحزاب والقوى والحركات السياسية الأخرى سوى الدكتور محمد محسوب، القيادي بحزب الوسط ldquo;الإسلاميrdquo; الذي اختير وزيراً لشؤون مجلسي الشعب والشورى .

سلطات مطلقة

قرارات الرئيس مرسي في رأي الكثيرين - حتى من خارج جماعة الإخوان المسلمين - أنهت سيطرة العسكريين على مقاليد الأمور في البلاد، وأعادت للمقعد الرئاسي هيبته التي رأى الكثيرون أنها تتراجع أمام تمسك القيادات السابقة للمجلس العسكري بالبقاء في صدارة المشهد السياسي، على الرغم من انتخاب رئيس للبلاد، لكن القرارات نفسها حملت ما رآه آخرون عودة إلى السلطات المطلقة التي كان يتمتع بها الرئيس المخلوع حسني مبارك وكانت محل انتقاد واسع من قبل معارضيه، ورآها مراقبون واحدة من دوافع الثورة الشعبية على مبارك في يناير ،2011 بل إن ldquo;الجمعية الوطنية للتغييرrdquo; التي تضم ممثلين لقوى سياسية مختلفة رأت أن مرسي أصبح بإلغائه الإعلان الدستوري المكمل الصادر من المجلس العسكري يملك صلاحيات تفوق سلطات الرئيس المخلوع مبارك، وأن جماعته تواصل إتمام سيطرتها على كل مفاصل السلطة في البلاد والمتمثلة في البرلمان بغرفتيه الشورى، والشعب ldquo;المنحلrdquo; والجمعية التأسيسية للدستور، ومجلس الوزراء، ومؤسسة الرئاسة، والشباب، ومؤسسات الإعلام والصحافة، فضلاً عن السعي إلى السيطرة على حركة تغييرات واسعة مرتقبة في صفوف المحافظين، وعلى المجالس المحلية التي يرتقب إجراء انتخابات لاختيار أعضائها على مستوى الجمهورية قريباً .

وتذهب الجمعية في انتقاداتها لمساعي السيطرة الإخوانية إلى حد وصف عملية ldquo;أخونة الدولةrdquo; بأنها تمثل وضعاً بالغ الخطورة وrdquo;انقلاباً شاملاً على الثورة وأهدافها، التي طالبت بالحرية والتعددية والدولة المدنية والديمقراطية والمواطنة والمساواةrdquo;، معتبرة أن ما يضاعف من خطورة هذا الوضع أيضاً غموض وضع جماعة ldquo;الإخوانrdquo; ذاتها ومصادر تمويلها، وهيئاتها التنظيمية، وعدم خضوعها لأي رقابة للدولة ومؤسساتها وقوانينها .

انقسام

في الرفض للسيطرة الإخوانية تنقسم القوى السياسية المصرية إلى فريقين أحدهما يراه مراقبون عبئاً على الحركة المناهضة للجماعة وتؤدي ممارساته إلى آثار معاكسة في مصلحة الجماعة وليس ضدها، وهو الفريق الذي يتبنى الدعوة إلى مظاهرات يومي 24 و25 أغسطس/ آب الجاري، فيما يعرف بمليونية إسقاط الإخوان، والآخر يتبنى إجراءات عملية لبناء حركة جماهيرية تتصدى لممارسات الجماعة .

أما الفريق الأول فعبئه يأتي من أن دعوته للتظاهر على مستوى الدولة ضد الإخوان جاءت من سياسيين وإعلاميين وأحزاب سياسية لا تتمتع بحسب مراقبين بمصداقية كافية لحشد الجماهير وراء دعوتهم، فضلاً عن أن تلك الدعوات تضمنت تحريضاً على اقتحام مقرات جماعة الإخوان المسلمين وتدميرها، وهي دعوات لا تجد أي صدى شعبي، ويستفيد منها نشطاء ldquo;الإخوانrdquo; في الترويج لأن معارضيهم يسعون إلى الدخول بالبلاد في دوامة من العنف والمواجهات وتعطيل دوران عجلة الإنتاج، ومنع تحقيق الاستقرار، ما يستثير مشاعر شعبية مناهضة لمليونية إسقاط الجماعة، فضلاً عن أن الدعوة تمنح الجماعة فرصة جديدة لاستعراض قوتها من جديد أمام مقارها بمختلف أنحاء الجمهورية، كما تمنح الجماعة فرصة لاجتذاب التفاف سياسي حولها وهو ما بدأ يتحقق بإعلان قوى سياسية ونشطاء أنهم سيشاركون كوادر الجماعة في الدفاع عن مقارها .

الفريق الآخر المناهض للسيطرة الإخوانية للدولة المصرية يتبنى آليات جديدة عبر مؤتمرات التوعية بين الجماهير والتي يتبناها التيار الشعبي بقيادة المرشح الرئاسي السابق حمدين صباحي، إلى جانب إطلاق دعوات لعمل جماعي يضم القوى الوطنية والديمقراطية، وقوى الثورة والشباب والمرأة ومؤسسات المجتمع المدني والمبدعين، بهدف الدفاع عن حماية الحريات العامة وحرية الفكر والإبداع، وكذلك الهوية المصرية الوطنية الجامعة، ويأتي في هذا الإطار دعوة الجمعية الوطنية للتغيير إلى ldquo;بناء جبهة ديمقراطية عريضة، تضم كل أصحاب المصلحة في الدفاع عن قيم الديمقراطية والدولة المدنية، التي يجب أن تنتظم معاً في معركة الدستور الجديد، ولحمايته من استحواذ القوى المعادية للديمقراطية والمواطنة والحرية والقانونrdquo;، والانتظام في معركتي انتخابات مجلس الشعب والمحليات التالية، لاستعادة التوازن المفقود في موازين القوى على الساحة السياسية بالبلاد، كما دعت الجمعية إلى الإعداد الجيد لعقد ldquo;مؤتمر وطني جامعrdquo;، يضم كل القوى الديمقراطية من اجل تدارس الوضع، وتحليل مخاطره، ووضع استراتيجيات المواجهة، والحشد في معركة الدفاع عن هوية الدولة المدنية المصرية التاريخية، وحماية الدستور من الانقضاض عليه وتطويعه لتحقيق غايات أطراف بعينها .

على المستوى النظري تبدو أطروحات الفريق الثاني المناهض لاحتكار جماعة الإخوان المسلمين للمشهد السياسي في البلاد الأقرب لحشد الدعم الشعبي وبناء حركة سياسية وجماهيرية تستطيع التصدي لمحاولات ldquo;أخونةrdquo; الدولة المصرية، لكن التطبيق في الواقع العملي يبقى هو التحدي الأكبر أمام القوى المنضوية تحت لواء هذا الفريق، خاصة أنها لا تزال تعاني بطء الحركة على الأرض، ويتعين عليها الخروج من دائرة طرح النظريات وعقد الندوات الضيقة إلى الالتحام المباشر بجمهورها المستهدف، فضلاً عن الانتقاء الجيد للعناصر التي يمكن أن تتصدى لقيادة تلك التحركات، حتى لا تفاجأ بخروج البعض من الصف بدافع من الحسابات السياسية الضيقة والصفقات الانتخابية، خاصة أن البلاد مقبلة خلال مدة لا تبدو بعيدة على إجراء انتخابات تشريعية جديدة وأخرى للمجالس المحلية .

معركة وهمية

جماعة الإخوان المسلمين ومقربون منها يرون في الحديث عن ldquo;أخونة الدولةrdquo; مجرد معركة وهمية يثيرها البعض لإثارة مخاوف الشعب المصري والتشويش على مسيرة الرئيس الجديد وحكومته ldquo;بحسب وصف قيادي بالجماعةrdquo;، ويتفق معه في ذلك الكاتب الإسلامي فهمي هويدي الذي يصف هذا الحديث بأنه ldquo;قنبلة تخويف بأكثر منها تصوير للواقعrdquo;، مشيراً إلى أن ldquo;وجود الإخوان وآخرين من السلفيين في المجالس والنقابات المنتخبة حاصل، وهم يشكلون أغلبية فيها لكن ذلك أمر لا حيلة لأحد فيه، لأنه قرار المجتمع وليس قرار السلطة القائمةrdquo;، مضيفاً أن ldquo;هيمنة فصيل واحد على مؤسسات الدولة المصرية مرفوضة نظرياً وغير ممكنة علمياً لأن مصر أكبر من أي فصيل ولا يقبل عاقل أن يصبغها بلون واحد، كما أن الشعب الذي استرد وعيه وأسقط حكم مبارك بكل جبروته لن يقبل باحتكار فصيل واحد لمقدراتهrdquo; . ويبقى القول إن الأيام المقبلة ستشهد سجالاً ومعارك إعلامية ومحاولات للحشد الجماهيري بين الجماعة ومعارضيها كل بطريقته، ويصبح النجاح لأي منهما رهناً بالتحرك الأسرع والقدرة على التواصل مع جماهير هي بطبيعة الحال مهمومة بانقطاع التيار الكهربائي تارة ومياه الشرب تارة أخرى ومشغولة أكثر باستعادة الأمن وتوفير فرص العمل .