سليمان جودة


شاع في الأيام الأخيرة، كلام كثير، في أكثر من صحيفة مصرية، وفي أكثر من وسيلة إعلامية، عن صفقة يجري التوافق حولها، بين مندوبين عن الرئاسة المصرية، ورموز جهادية سلفية في سيناء، من أجل وقف العنف، من جانب جهاديين هناك. وأيضا في المقابل، وقف العملية laquo;نسرraquo; التي كانت قد انطلقت في المنطقة، في أعقاب عملية رفح الشهيرة، التي حصدت أرواح 16 جنديا مصريا على الحدود المصرية - الإسرائيلية في رمضان الماضي.

ولا أحد، إلى الآن، يعرف حدود الحقيقة، ثم حدود الخيال، فيما شاع حول هذا الموضوع.. ولكن يبدو أن الحقيقة فيه، أكبر من الخيال، لا لشيء، إلا لأنه في كل مراحل النشر التي جرى خلالها، كان مقترنا بأسماء جاء ذكرها في الأخبار، على الجانبين، سواء كانت أسماء لرجال وعلماء دين ذهبوا في سيارات تابعة للرئاسة، والتقوا في مسجدين بالشيخ زويد، مع رموز سلفية، من أجل عقد هدنة، أو كانت أسماء سلفية محددة، جاء ذكرها أيضا، في ثنايا الأخبار المنشورة، وقيل إن أصحاب هذه الأسماء، التقوا مع مندوبي الرئاسة المصرية، وأنهم، على الجانبين، توافقوا تقريبا، على وقف العنف، في نظير وقف العملية laquo;نسرraquo;!

لا أحد، كما قلت، يعرف على وجه اليقين، الحدود الفاصلة بين الحقيقة والخيال، فيما قيل إلى الآن، خصوصا أن ما قيل كله، خرج في صورة تسريبات من هنا، مرة، ومن هناك مرات، غير أن ما يشير إلى أن الكلام في إجماله له ظل من الحقيقة، أن أحدا من الناحيتين لم يكذبه إلى لحظة كتابة هذه السطور.

وإذا افترضنا أن الموضوع حقيقة، وليس خيالا، ثم بنينا رأيا على أساس ذلك، فيمكن القول إن الحكاية لو تمت بهذا الشكل، فسوف تنطوي على خطر كبير لعدة أسباب، من بينها مثلا، أن الذين يمارسون العنف في حق الدولة، سواء كانت هذه الدولة هي مصر أو غيرها، يجب ألا تنعقد معهم هدنة، أيا كانت مبرراتها، وإنما يجب أن يخضعوا للقانون، فيدانوا، أو تتم تبرئتهم، وإخلاء ساحتهم، من ممارسة العنف.. أما عقد هدنة معهم، أو مع غيرهم، فإن هذا في حد ذاته، ينطوي بدوره على خطر حقيقي لسببين؛ أولهما أن عقد الهدنة هنا معناه، أن هؤلاء الذين تنعقد معهم مثل هذه الهدنة، ندٌ للدولة، وهو ما لا يليق، ولا ينبغي، إذ تبقى الدولة في كل أحوالها فوق الجميع، ولا يتعين أبدا لأي جماعة مهما كانت، أن تكون ندا لها!

أما السبب الثاني، فهو أن الذي يملك وقف العنف هنا، بموجب هدنة، أو صفقة، أو أي اسم آخر، يملك، والحال كذلك، نقض الهدنة، في أي وقت، ويملك التحلل من الاتفاق، أو التوافق، تحت أي ظرف، ومعاودة العنف من جديد!

أريد هنا أن أشير سريعا، إلى أن عملية مماثلة كادت تتم، في مطلع التسعينات، من القرن الماضي، بين نظام حسني مبارك والمجموعات الإسلامية، التي كانت تمارس العنف على أشده في ذلك الوقت.. فوقتها، كان اللواء الراحل عبد الحليم موسى، وزيرا للداخلية، وكان العنف من هذا النوع يوجه ضرباته المتلاحقة في أكثر من مكان في مصر، ويبدو أنه كان قد أرهق النظام السابق، ووزارة داخليته، إلى الحد الذي باتت معه الدولة في ذلك الحين، مقتنعة بأن عقد هدنة معهم، أي مع الذين يمارسون العنف باسم الدين، حل لا بديل عنه!

وفي ذات صباح، من تلك الأيام، تعرض صفوت الشريف، أحد أهم رموز النظام السابق، لمحاولة اعتداء على حياته، وقد نجا منها، غير أن أهم ما بقي بعدها، أن كلاما مؤكدا، أو شبه مؤكد، قد قيل، عن أن الرئيس السابق مبارك، كان على موعد في الصباح نفسه، مع شخصية مصرية شهيرة، من أجل وضع اللمسات الأخيرة للصفقة بين الجانبين! نظام مبارك من جهة، وجماعات العنف من جهة أخرى.

وقيل، وهو كلام سمعته بنفسي من أكثر من مصدر أثق فيه، إن محاولة الاعتداء على حياة صفوت الشريف، كانت مدبرة، ومقصودة، وكان الهدف من ورائها وأد فكرة الصفقة في مهدها، وهو ما كان فعلا، إذ كانت النتيجة المباشرة لمحاولة الاعتداء على حياة الشريف، إلغاء اللقاء الذي كان سيتم بين مبارك، والشخصية الوسيطة، ثم القضاء على الفكرة نفسها، واستبعادها تماما.. ولو أن أحدا عاد ليراجع صحف تلك الفترة، فسوف يلاحظ بسهولة، أن الكلام عن صفقة من هذا النوع، قد توقف كاملا بعد حادث صفوت الشريف، بحيث يمكن القول إن الحادث كان هو الحد الفاصل في الموضوع من أوله لآخره!

سوف تكشف الأيام، في المستقبل، عن تفاصيل أكثر في المسألة، وسوف يأتي يوم نعرف فيه، أي أركان نظام مبارك، بالضبط، كان مع الفكرة، وأيهم في جانب آخر، كان ضدها، وكان هو بالتالي الذي دبر الحادث الذي وقع في الصباح نفسه، لنسف الفكرة من أساسها!

وحتى يأتي هذا اليوم، فإن العقل يقول، إن الدولة القوية لا تعقد صفقة من أي نوع، مع فصيل فيها، خاصة إذا كان بعض المنتمين إلى هذا الفصيل، يؤمنون بالعنف سبيلا في التعامل مع الدولة!

الدولة القوية، والعصرية بالتالي، لا تعقد هدنة، ولا صفقة، مع بعض أبنائها، لأنها خطوة محفوفة بالخطر، من كل جوانبها، وإنما تطبق القانون على الجميع، دون استثناء، ومهما كان الثمن.