عبدالحميد الأنصاري

علينا أن نتجاوز جدلية توصيف مد الربيع العربي، وهل هو ثورة شعبية شاملة أو حركة احتجاج اجتماعية وسياسية، فالعبرة دائماً بالأهداف والمحصلات النهائية، فمما لا شك فيه أن هذا المد الربيعي أزال أنظمة راسخة كانت تمارس طغياناً وفساداً كبيرين لأكثر من نصف قرن، متحصنة بشرعيات شعبية مزعومة.
كما أنه من الظلم بل الإهانة لشعوب هذه المنطقة أن نتهم هذه الحركات بأن وراءها مؤامرة دولية، تستهدف تفتيت المنطقة لمصالح إسرائيلية وأميركية، بل من السخف ترديد القول إن هناك تواطؤاً تم بين الأميركيين والإخوان، وبالتفاهم مع العسكر عبر صفقة كبرى يلتزم فيها الإخوان باتفاقية السلام مع إسرائيل والعلاقة الوثيقة بأميركا في مقابل دعم أميركا لهم في تسلمهم مقاليد الأمور في المنطقة.


في تصوري أن هذه مجرد أوهام وخيالات لا سند لها، بل يعد نوعاً من استغفال الشعوب التي ضحت في سبيل الحرية والكرامة وقدمت شهداء، وسيختلف الباحثون أمداً طويلاً في طبيعة حركات الربيع العربي ومحركاتها وأهدافها، وإلى أي مدى أثرت الطروحات الإصلاحية في تهيئة الظروف الملائمة لها؟ وكيف ساهم تيار العولمة الثقافي والسياسي في شباب الثورة، وجعلهم يرفضون استمرار حكم الذل والمهانة، ويتطلعون إلى غد أفضل لأوضاعهم بديلاً عن حالة العجز والتخلف والعطالة؟
وفي تصوري أيضاً أن الربيع يمثل في جوهره ثورة شاملة على كافة الأوضاع والنظم والمؤسسات السابقة، والتي أفرزتها الانقلابات العسكرية التي حكمت المنطقة تحت شعارات الحرية والوحدة والعدالة وتحرير فلسطين لأكثر من نصف قرن، بدءاً بانقلاب حسني الزعيم في سورية 1949 مروراً بانقلاب عبدالناصر ورفاقه في مصر 1952، فعبدالكريم قاسم 1958 فالسودان واليمن 1962 إلى انقلاب الفاتح على يد القذافي ورفاقه 1969.


هذه الانقلابات التي تحمست لها شعوبنا، وأملت فيها خيراً وهتفت بالدم والروح فداءً لقادتها، لم تجن منها إلا سوءاً عظيماً، لقد أفرزت نظماً وأوضاعاً وحكومات فاسدة ومفسدة أذاقت شعوبها مر العذاب: إهداراً للكرامات وفشلاً ساحقاً في كافة المجالات، وتعذيباً في المعتقلات، وتخريباً للنفسيات، وتضليلاً إعلامياً كبيراً.
وقام زعماؤها وعبر الخطب الحماسية والشعارات الفارغة والعنتريات الكاذبة بمناطحة إسرائيل وأميركا في عملية تزييف لوعي الجماهير وبدون أي قدرات حقيقية إلا الادعاء الكاذب فكانت النتائج كارثية: اقتصادات محطمة، وهزائم مريرة، وطبقات مستغلة وفاسدة، وأوضاع محبطة، وخيبات كبيرة.
لقد أعادت هذه الانقلابات المنطقة إلى الوراء 50 عاماً، لقد كانت بلاد الربيع العربي قبل هذه الانقلابات المشؤومة وفي ظل النظم الملكية ووجود المستعمر الأجنبي، أفضل حالاً بكثير، كانت هناك تعددية سياسية ومناخ حر ومزدهر وأحزاب تمارس دورها بكل حرية تعارض الحكومة والملك، وترفع وعي الجماهير، كانت الأحزاب السياسية أشبه بمدارس يتخرج منها المواطن العربي أكثر وعياً وولاءً ووطنية، كان هناك نوع من التداول على السلطة ودساتير تحترم وقانون ونظام.
لم تعرف المنطقة العربية في ظل الملكيات السابقة تعذيباً في السجون، وإهانة للكرمات، وتخريباً للنفسيات إلا بعد الانقلابات العسكرية على يد حكومات الثورات العربية، كان هناك مناخ ليبرالي حر أنتج عباقرة مثل طه حسين والعقاد وزكي نجيب محمود ولطفي السيد وأحمد أمين وحسين مؤنس ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وأحمد حسين وفتحي رضوان، ومحمد فتحي عثمان والشيخ شلتوت والشيخ محمد الغزالي، كما أنتج قانونيين أفذاذاً مثل السنهوري وفنانين عمالقة مثل محمد عبدالوهاب وأم كلقوم وفريد الأطرش وعبدالحليم والمئات من المبدعين الذي أثروا حياتنا الفكرية والثقافية والفنية.
كانت هناك حياة ديمقراطية حقيقية، ولو استمرت لوصلت وحققت ما هو قائم وممارس في الديمقراطيات العريقة، وكانت هناك نهضة اقتصادية عظيمة وصناعات متقدمة لو بقيت ولم تطلها يد التأميم والمصادرة وسوء الإدارة لحققت ما حققته نمور آسيا الصاعدة.
قامت الانقلابات العسكرية تحت شعار الثورة على الملكية والإقطاع، ودمرت كل تلك الإنجازات المتقدمة، كان نصف قرن من الفشل الذريع في كل شيء، وفي كل المجالات: حكماً وإدارة وتنظيماً واقتصاداً وتعليماً وإعلاماً وعلاقات خارجية وقوة عسكرية، سيطر تحالف العسكر مع القوميين من الناصريين والبعثيين على مقاليد الأمور في بلاد الربيع العربي وهيمنوا على الثروات وتحكموا بالعباد، فأكثروا من الفساد.
وجاءت ثورات الربيع العربي لترد للشعوب اعتبارها وكرامتها، ولتتخلص من حكم الذل والمهانة والفساد ولتزيل هذه الأوضاع الفاسدة، ولذلك فإن نجاح هذه الثورات في إسقاط تلك النظم المتخلفة يعد في الحقيقة إسقاطاً للشرعيات التي كانت تتظاهر بها تلك النظم، واستئنافاً لشرعيات جديدة تأمل الشعوب أن تحقق آمالها وتطلعاتها في غد مزدهر.
التساؤلات المطروحة في الساحة الآن: ما شكل الحكم القادم للربيع العربي؛ إسلامي أو ليبرالي أو خليط بينهما؟ بطبيعة الحال فإن الهدم والإزالة أسهل من البناء والنماء، وهذه الجماهير المتحمسة التي تحدت الحديد والنار، وأسقطت حاجز الخوف من الأجهزة الأمنية، وخرجت بصدورها العارية، وحطمت قوى الطغيان والبطش، هل تنجح اليوم في إقامة نظام ديمقراطي تعددي يعتمد مبدأ المواطنة المتساوية للجميع؟
الشواهد والإرهاصات الظاهرة حتى اليوم لا تبعث على التفاؤل، ولا تبشر بمستقبل ديمقراطي حقيقي، ولذلك فإن كثيراً من الكتاب والباحثين لا يأملون كثيراً ولا يتوقعون انفراجاً ليبرالياً حقيقياً على امتداد العقد القادم، إذ سيكون عقداً للإسلاميين الحاكمين والمهيمنين على الفضاءات المجتمعية والمتحكمين بكافة المؤسسات الحيوية ومنابر التعليم ومؤسسات الدعوة والتثقيف الديني والسياسي.


سيتظاهر هؤلاء بإقامة أشكال من الديمقراطية المظهرية من دون أن يكون هناك مضمون حقيقي لها، وهذا هو ما نراه اليوم حاصلاً في مصر وغيرها، فقد عين الرئيس المصري الجديد هيئة استشارية ضخمة تمثل كافة الاتجاهات السياسية في مصر، لكنها في تصوري مجرد هيئة استشارية مظهرية لا قيمة ولا وزن لرأيها، وقد لا يكون لها أي دور في ترشيد القرارات السياسية للرئيس المصري.
كما قام مجلس الشورى الذي يهيمن عليه الإخوان بتعيين رؤساء تحرير جدد للصحف القومية، وهؤلاء جميعاً إما أنهم يدورون في فلك الإخوان أو من المتعاطفين معهم، وسيعملون على تزييف وعي الجماهير والتضليل السياسي، تماماً كما كان يفعل الحزب الوطني في عهد مبارك.
وأما الدستور المصري المنتظر فلن يكون دستوراً ديمقراطياً حقيقياً لأن الأغلبية في الهيئة التأسيسية للدستور للإخوان والسلف، وبالنسبة إلى القضاء المصري فالإخوان يعملون على إخضاعه وتدجينه وتسييسه لأهوائهم ومصالحهم السياسية، ولذلك أتوقع أن يكون شكل الحكم القادم في بلاد الربيع العربي في ظل الإسلاميين، حكماً إسلامياً ديمقراطياً شكلياً، أي دون مضمون حقيقي وفاعل لا من تعاليم الإسلام ولا من مبادئ الديمقراطية. أما في ما يتعلق بالتنمية الاقتصادية فإن حكومات الربيع العربي ستظل إلى أمد طويل تحت رحمة المعونات وإحسان المساعدات والقروض العربية والدولية، ولن ينجح الإسلاميون الحاكمون في إقامة اقتصاد مزدهر إلا إذا تمكنوا من تغيير طروحاتهم الإيديولوجية، وغيروا مواقفهم المبدئية من السياحة والاستثمارات الأجنبية عبر علاقات وتحالفات طبيعية مع كافة دول العالم من غير عقد استعلائية.
ختاماً يقول الكاتب الصحافي عادل درويش: ldquo;لا يوجد حتى الآن نموذج إسلامي سياسي واقتصادي ناجح، وكل التجارب السابقة أثبتت أنه ما إن يصل الإسلاميون إلى السلطة إلا ويدمرون الاقتصاد القائم، ويعملون على هروب السياحة والاستثماراتrdquo;. أرجو أن تحقق تجربة الإسلاميين الجدد هذه المرة في بلاد الربيع العربي ما يناقض هذا الرأي.