إياد أبو شقرا

فكنتَ كالعير غدا يبتغي

قرنا، فلم يرجع بأذنين

(بشّار بن بُرد)

* غالبا مع بدء العد العكسي للانتخابات الأميركية، على الرغم من مركزية الوضع الاقتصادي، تغطّي عبارات رنّانة يطلقها معسكر المرشح الديمقراطي هنا والمرشح الجمهوري هناك على أجواء الحملة. وبالتالي، تغدو هذه العبارات اختصارا مبسّطا لأفكار المرشحين وفلسفتهما السياسية.

جيمي كارتر، مزارع الفول السوداني المتديّن ورجل العائلة ذو السلوك القويم، استغلّ فضيحة laquo;ووترغيتraquo; التي هزّت أركان إدارة ريتشارد نيكسون ليجعل من laquo;النظافة السياسيةraquo; شعار حملته الناجحة ضد جيرالد فورد، نائب نيكسون، عندما واجهه في انتخابات عام 1976.

ورونالد ريغان، رجل هوليوود والناشط المتشدد ضد الشيوعية، استغلّ تردّد رئاسة كارتر ومثاليتها الساذجة إبان أزمة اختطاف الرهائن الأميركيين في طهران، وصولا إلى فشل عملية الإنزال داخل إيران، ليرفع شعار laquo;لنجعل أميركا عظيمة من جديدraquo; في مواجهة laquo;الشيطان الأكبر السوفياتيraquo; عام 1980. وعندما خلفه نائبه جورج بوش الأب تسابقت ماكينات الدعاية الانتخابية على بناء صورة له تسترجع شريط قتاله في الحرب العالمية الثانية وإدارته laquo;السي آي آيهraquo;.

وجاء منافسه الديمقراطي الشاب بيل كلينتون عام 1992 ليهزّ أركان تلك laquo;الصورةraquo; ومعها الذكريات الإيجابية للأميركيين لـlaquo;حرب تحرير الكويتraquo;، عندما رفع شعارا بسيطا هو laquo;إنه الاقتصاد يا غبيraquo; معيدا اللعبة برمّتها إلى أولويّات المواطن الأميركي المباشرة.. ففاز. كان هذا متيسّرا لكلينتون لكونه أول رئيس من الجيل الذي ولد بعد نهاية الحرب العالمية الثانية (المعروف بـlaquo;البيبي بومرزraquo;)، ولكون المرشح الثالث الملياردير روس بيرو أخذ أصواتا كافية من الجمهوريين وأكد ترشّحه وجود أزمة اقتصادية أخفقت سياسات الجمهوريين المتشددين الاقتصادية - أي laquo;الريغانوميكسraquo; - في معالجتها.

وبعدما laquo;نشلraquo; جورج بوش الابن الانتخابات الرئاسية من منافسه نائب الرئيس الديمقراطي آل غور عام 2000، كان أركان حملته يرشقون الديمقراطيين بتهمة الانهماك بـlaquo;بناء الدولraquo; الأخرى بعد اتهامهم بإهمال تحفيز الاقتصاد الداخلي، والغمز من قناة اهتمامات غور البيئية - التي استحقّ عليها لاحقا جائزة نوبل للسلام - لأنها حسب منطق اليمين المتطرّف تكبّل الاقتصاد وتثقل كاهل الشركات الصناعية.

وبعد سنوات من المغامرات الخارجية المُكلفة والزلزال الاقتصادي المروّع، ناهيك من النكات الكثيرة الساخرة من بوش وأقواله - التي عرفت بـlaquo;البوشّيّاتraquo; -، أطلّ على المسرح باراك أوباما الذي أضحى أول مرشح أسود يتبنى ترشيحه أحد الحزبين الرئيسين. وكان شعار أوباما بسيطا وقصيرا بقدر ما هو بليغ.. laquo;التغييرraquo;.

فقط laquo;التغييرraquo;.

كان تبنّي ترشيح أوباما في حد ذاته قفزة laquo;تغييريةraquo; هائلة. وعندما أجريت الانتخابات قبل 4 سنوات انتزع أوباما الفوز في ولايات اعتُبرت حتى فترة قصيرة معاقل حصينة للجمهوريين مثل فيرجينيا ونورث كارولينا وإنديانا.

laquo;التغييرraquo; ما كان سهلا، كما يظهر اليوم. ربما لأن التوقّعات كانت أكبر بكثير مما هو متاح. وربما لأن الناخب الأميركي يريد العلاج السريع من دون أن يكون الدواء مرّ المذاق. بل - وهذا ما هو أسوأ - لا يريد التفكير كثيرا بما سبّب المرض في المقام الأول.

لهذا، بينما يتردّد أوباما اليوم، ويفقد هالة laquo;الرجل التاريخيraquo;، يعود الجمهوريون بالناخبين إلى الوصفات نفسها التي أوقعت البلاد، ومعها العالم الصناعي كله، في الأزمة الاقتصادية الكبرى المستمرّة منذ نهايات عام 2007.

أوباما الذي لا يستطيع أخلاقيا رشوة الناخبين بخفض الضرائب كما يفعل الجمهوريون، يحاول البناء على منجزاته على صعيد السياسة الخارجية، وفي مقدمها السحب التدريجي للوجود الأميركي العسكري من العراق وأفغانستان، ونجاح إدارته حيث أخفقت laquo;عنترياتraquo; إدارة بوش الابن.. في تصفية أسامة بن لادن، بما لذلك من وقع في الذاكرة الوطنية الأميركية بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001.

اليوم عندما يحاول مخطّطو الحملة الرئاسية الجمهورية مهاجمة الرئيس الديمقراطي وانتقاد فترة حكمه، فإنهم يثيرون، كما فعل رونالد ريغان قبل 32 سنة، مسألتين هما: تحرير الاقتصاد من تدخّل الدولة (وفق عبارة ريغان الشهيرة laquo;إزاحة الدولة عن ظهور الناسraquo;)، وتراجع هيبة أميركا في العالم.

في المقابل، يصب أوباما كل جهده على تفادي الوقوع في laquo;مطبّاتraquo; والتورّط في مشكلات مباغتة.. بين الآن وحتى أول نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، موعد الاقتراع الحاسم في سباق البيت الأبيض.

غير أن هذا الجهد - بل الهاجس - يهدّد الرئيس بفقدان رصيدين شكّلا منذ 4 سنوات جوهر حكمه، هما: رصيد الزعيم المثالي المؤمن بحقوق الإنسان والمدافع عن المظلومين، والثاني رصيد السياسي المسؤول القادر على مصارحة شعبه بأنه لولا مبادراته التدخّلية الجريئة خلال السنوات القليلة الماضية لما كان ممكنا احتواء تداعيات الزلزال الاقتصادي الذي تسبب به خصومه.

السياسات الأميركية إزاء أزمات الشرق الأوسط تبدو مُضعضعة، كي لا نقول منافِقة وعاجزة أمام الابتزاز الإسرائيلي، والتمدّد الإيراني، والتحدّي الروسي - الصيني.

أيضا، الموقف من التعايش مع الإسلام السياسي الصاعد يَظهر للمراقب موقفا مُبهما وضبابيا. ثم، للأسف، بات التعامل مع ملف المحنة السورية وسط المجازر الفظيعة التي تدفع المواطنين السوريين دفعا نحو اليأس والتطرّف.. مُخجلا ومعيبا.

خلال الأسبوع الماضي وقف الرئيس أوباما في قاعدة فورت بليس العسكرية بولاية تكساس، ليرد على كلام منافسه ميت رومني إزاء تراجع نفوذ أميركا، فقال: laquo;إذا سمعتم أحدا يحاول القول إن الولايات المتحدة في تراجع أو إن نفوذنا يتقلّص، لا تصدّقوه، لأن الحقيقة هي أن تحالفاتنا لم تكن يوما أمتن مما هي عليه اليومraquo;.

قد يكون رد أوباما صحيحا أو لا يكون. ولكن الناخب الأميركي، ولو كان ساذجا أحيانا لكي يصدّق وعود الرشاوى الضريبية، فإنه يرى ويسمع laquo;الفيتوهاتraquo; الروسية والصينية التي لا ترد عليها واشنطن إلا بالكلام.

حقيقة الأمر، بكل بساطة، أن قوة أميركا ونفوذها يقاسان بهيبتها وقدرتها على توجيه الرسائل الحازمة. بكلام آخر يُقاسان بعدد laquo;الفيتوهاتraquo; التي يجرؤ خصومها على ممارستها ضد سياساتها.