خالد الحروب

علاَّمة حلب ومثقفها النهضوي البارز عبدالرحمن الكواكبي صاغ قبل أكثر من قرن مقولة تُسطر بماء الذهب: الاستبداد أصل كل فساد. وفي عقود القرن الضائع الطويل الذي جاء بعد تلك المقولة، وفي ما عدا سنوات سريعة وجيزة لأنظمة ديمقراطية برلمانية بعيد الاستقلالات، أعرض العرب عن الاستماع لنصيحة الكواكبي وتبنوا عكسها تماماً: احتضنوا الاستبداد عماداً لبعض الأنظمة السياسية التي سادت. وأخذت بعض الأنظمة العربية أشكالًا وتنويعات مختلفة على مقياس الاستبداد فمنها من وصل إلى أقصى درجاته، ومنها من بقي استبداده في درجات أدنى. والاستبداد بكل تنويعاته مدمر ومنتج للفساد، ولكن أبشعه هو ذلك الذي يصل إلى درجة الولوغ والسباحة في دم الأبرياء. وهذا النوع من الاستبداد لا ينتج كل أنواع الفساد وحسب، ولكنه ينتج أيضاً ثقافة الدم ويؤصلها ويجذرها في المجتمع. يحدث ذلك عبر تنمية غرائز الثأر والانتقام ومراكمة الحقد والكراهية. وتتفشى الكراهيات بين شرائح الشعب والنظام، وتصبح quot;الكراهية مديحاًquot;، باستعارة عنوان رواية خالد خليفة، التي صورت الواقع السوري الأسدي ومنتجاته ببراعة. ومن هذا المنظور يمكن اليوم قراءة ما يقوم به النظام السوري من إجرام مدهش، وقراءة ممارسة بعض مجموعات المعارضة الانتقامية والدموية أيضاً. ودفعاً لأي سوء فهم فليس المقصود هنا تسطير مساواة quot;موضوعية سمجةquot; بين المجرم والضحية، فالنظام الأسدي هو المجرم والشعب السوري بناسه ومعارضته ومقاومته المسلحة (على رغم ما فيها من شوائب) هو الضحية. والنظام الأسدي يحتل اليوم أقصى نقطة دموية في مقياس الاستبداد ويقدم المثال الأكثر بشاعة في المنطقة العربية للاستبداد المنتج لكل أنواع الأمراض الجماعية، وخاصة ثقافة الدم والثأر والانتقام.

وبدايات شرارة الثورة السورية انطلقت في مدينة درعا كما هو معروف في شهر مارس 2011، عقب التعذيب والإهانات التي قام بها محافظ المدينة بحق أطفال دون السن القانونية كتبوا شعارات ضد النظام، مندفعين بروح quot;الربيع العربيquot; في تونس ومصر واليمن وليبيا ومتأثرين بها. آنذاك أوقع المحافظ الهمام تعذيباً دموياً بحق الأطفال أدمى قلوب ذويهم، ولما جاءوه على رؤوس قبائلهم للمطالبة بالإفراج عن الأطفال شتمهم وشتم أولادهم quot;عديمي التربيةquot;! ما الذي أوصل المحافظ العتيد إلى تلك الدرجة من الانحطاط القيمي والأخلاقي والدموي؟ ولماذا تحول إلى ذئب يجلس على كرسي لا يرى في بقية الشعب سوى فرائس يمكنه فعل ما يشاء بها؟ لم يكن ثمة ثورة ولا خطر على النظام ولا مظاهرات عارمة تجوب شوارع درعا آنذاك، فلماذا هذه القسوة البالغة في المعاملة والذهاب إلى الحد الأقصى؟ ليس هناك جواب شافٍ على هذا السؤال إلا بالعودة إلى المنابع الاستبدادية للنظام وكيف تفاقم الطغيان والجبروت والإقصائية والتضخم في الذات السلطوية.

وقسوة محافظ درعا ودمويته أثبتت أنها كانت quot;أقلquot; بشاعة مما اعتقده الناس يوم قام بما قام به، بل كانت نسخة محسنة وquot;لينةquot; من الدموية التي أطلق حممها النظام ضد الشعب السوري خلال الشهور التي تلت. وقد تكشفت للناس درجات مذهلة من القدرة على سفك الدماء، والذبح، والتمثيل، وقتل الأطفال، وإزالة الحناجر. وقدم النظام وجهه الحقيقي: الشبيحة، وهم حماته والمدافعون عنه، والمستعدون لإبادة كل الشعب لو تمكنوا وذلك في سبيل بقاء الأسد وبطانته في الحكم. أطلق الشبيحة كل ما تراكم خلال العقود الماضية من إرث الدم وثقافة القتل والاستباحة، وأذهلوا حتى أنفسهم بسبب درجات الدموية التي قدموها للناس والمذابح التي أطلقوها ضد أبرياء القرى والمزارع. ثم جاء انفلات الهوس الجنسي ليستغل الفوضى ويترك لمكبوتات سابقة هي خليط معقد لسيكولوجيا فرويدية مريضة ترعرعت في أحضان النظام لا ترى الشعب إلا فرائس سائبة برسم الافتراس... والاغتصاب الذي توافرت ظروفه الموضوعية.

ومسيرة الاستبداد الأسدي خلال الأربعين سنة الماضية تملأ مجلدات بما يشير إلى أن ذلك الاستبداد قام وأنتج ثقافة، وأن المرويات التي لا تنتهي عن حوادث الإجرام وسفك الدماء حتى في سنوات ما قبل الثورة ليست مجرد quot;سلوكيات فرديةquot; خارجة واستثنائية ولا يمكن الحكم من خلالها على النظام. إن المدافعين عن النظام يحتاجون إلى قدرة خارقة كي يبرروا دمومة ذات الثقافة الانتقامية والاستبدادية التي تحتقر الشعب والأفراد والناس ولا تنظر إليهم إلا كأعداء لا يستحقون سوى الازدراء والاحتقار أو الموت إن عارضوا النظام. ومسيرة الاستبداد الطويلة تلك، وكما كانت مسيرة الاستبداد الصدَّامي النظيرة، تشتغل على تخريب ثقافة الناس أيضاً ونظرتهم إلى ذاتهم، وتسعِّر أسوأ ما فيهم من ولاءات وطائفيات، وتوترات، وتراكم في دواخلهم نزعات الثأر والرغبة الجارفة في الانتقام والرد على كل ما قد تعرضوا له خلال مراحل طويلة. ولهذا فإن ما نراه من سيادة للتطرف والإقصاء والحقد بين الأطراف التي ترث النظام المتداعي يكون في العادة مدهشاً، ومريراً، ومخيباً للآمال في ذات الوقت. ولكن جذور ذلك كله تعود إلى المناخ المسموم الذي يبثه وينشره النظام الاستبدادي ويرعاه. وهو مناخ لا يمكن إلا أن ينتج جيوباً وأفراداً هنا وهناك تنهل من نفس الغريزة الانتقامية والثأرية وإن كانت تأتي من الطرف المقابل. ومن هنا فإن التحدي الأكبر والأخطر الذي يواجه الثورة السورية، مثلما واجه الثورة الليبية، وكما لا يزال يواجه عراق ما بعد صدام حسين، يتمثل في كيفية محاصرة ثقافة الدم، وغرائز الانتقام. ستحتاج سوريا إلى فترة نقاهة طويلة كي تتطهر من الحقبة الأسدية وأمراضها وما ألحقته بأرضها وشعبها وثقافتها، وتستوي على قدميها وتسير إلى الأمام.