سعيد اللاوندي

قد يري البعض أن ما نثيره هنا ـ في هذه السطور ـ ضد العروبة التي كانت مصر مرتعا لها في الأيام الخواليrlm;..rlm; وقد يري البعض الآخر أن الحديث عن هذه الحرب لا يجدي نفعا في هذه الأيام التي تتصرف فيها الشعوب كما يحلو لهاrlm;

وقد يري البعض الثالث أنه ليس ضروريا أن نتحدث عن هذه الحرب, مع اعترافه بأنها ـ بالفعل ـ موجودة, لأنه يري أنه لا وقت لها..
وأقول ـ مع احترامي لكل هذه الردود ـ إنه لابد من الحديث عنها, لأن الشيء قد زاد وأصبحت هذه الحرب ـ علي الأقل ـ من أحد الأطراف ديدن حياتهم.. وبالتالي فإن الحديث عنها أصبح من الأهمية بمكان لا أقول لأن مصر تريد أن تأخذ مكانتها الأولي التي فقدتها سنين عددا ولكن لأن هذه الحرب تريد ـ ضمن ما تريد ـ تصغير مصر وتحجيم أهلها بالزور والبهتان.. وتفاصيل هذه الحرب كما يلي:
ــ لا تكاد تفتح أي فضائية وتشاهد برامجها ونشرة أخبارها إلا وتجد أبناء لبنان هم الذين يقومون بها.. وإذا احتاج إداريو هذه الفضائيات إلي أفراد آخرين فيولون وجوههم شطر المغرب العربي.. أما مصر فلا أحد ينظر إليها.. نجد هذا في الفضائيات القديمة والجديدة.. مثل فضائية فرنسا والصين وتركيا, ناهيك عن فضائية أمريكا الناطقة بالعربية.. وما يخنق النفس أن المصريين لا وجود لهم وكأن أهل لبنان قد خلقوا ليكونوا إعلاميين.. أما أهل مصر فلا.
وإذا تركت الفضائيات وذهبت إلي الصحف العربية, وجدت الشيء نفسه يتكرر, فالمناصب القيادية فيها لغير المصريين, أما المصريون الأقحاح فهم الذين يكدحون كأنفار عادية.. مرة أخري نبدو وكأننا دخلاء علي الإعلام المكتوب, مع أن العالم العربي كان يعترف بأن هناك مدرستين في الإعلام: المدرسة اللبنانية والمدرسة المصرية.. ولكل احترامها.. ما يحز في النفس أن مصر البالغ عددها91 مليونا لا تكاد تجد في الفضائيات الأخري سوي أبناء لبنان, مع أنهم لا يزيدون علي أربعة ملايين فقط.. بمعني أن المحاصصة وأهل لبنان أساتذة فيها غير موجودة.. وكأننا خلقنا لكي نكون شغيلة لأهل لبنان في الإعلام.. وهذا غير صحيح علي كل حال!
ولقد سميتها حربا لماذا؟
لهذا قصة: فقد كنت أدرس في باريس في بداية ثمانينيات القرن الماضي, وكان هناك منصب يشغله أستاذ مصري أذكر أن اسمه ـ إذا لم تخني الذاكرة ـ الدكتور الشقنقيري.. كان هذا الر جل يعمل أستاذا في القانون ويشغل منصب مدير الدراسات الإسلامية في جامعة السوربون.. والحق أن هذا الرجل كان منكبا علي عمله ولم يشغل نفسه بالمنصب ولا بمن يحومون حوله من اللبنانيين الذين يريدونه لأنفسهم.. وأشهد الحق أن الرجل ما إن ترك مكانه حتي شغله أحد المارونيين المتخصصين في الدراسات الإسلامية وأخذوا يتوارثونه حتي اليوم.. وضاعت مصر إلي الأبد ولم تعد تشغل هذا الموقع.
ما معني ذلك؟.. معناه أن الحرب معلنة علي مصر والمصريين في كل المواقع والغرض قد لا يكون تقزيم مصر ثقافيا بقدر ما هو سلب كل المناصب التي يشغلها مصريون لتكون لأي شخص من المشرق أو المغرب.
والدليل علي ذلك أنه لا يوجد اعلامي واحد في فضائيات العالم, كما لا يوجد أساتذة في الجامعات الغربية, وإن وجد فمن قبيل ذر الرماد في العيون يوجد شخص أو شخصان أو ثلاثة لا يتناسبون مع العدد الإجمالي الموجود في مصر أصلا!
مرد ذلك ـ في اعتقادي أن هذه الحرب المعلنة علي المصريين لا يلحظها أحد, وإن لحظها فالصمت هو الحل امتثالا بالقول: الفتنة نائمة لعن الله من يوقظها!.. ناهيك عن أخطاء المسئولين المصريين أنفسهم, إذ كيف أبرئهم منها وهم مدانون.. ويحضرني الآن موقف تسبب فيه المسئولون الذين لا يعرفون قيمة وقامة مصر!
ففي إحدي المرات وبعد أن عادت مصر للصف العربي أو عاد العرب إليها.. خلا منصب مدير معهد العالم العربي في باريس فقال الفرنسيون لابد أن يعود هذا المنصب إلي مصر لأنه لا يعقل أن تكون مصر بلدا لطه حسين حارس الثقافة العربية ويظل هذا المنصب بعيدا عنها.. وأرسلوا يطلبون رجلا لهذا المنصب من مصر.. وانتظر المسئولون المصريون ـ كعادتهم ـ طويلا ثم أرسلوا شخصا دبلوماسيا كان مريضا ويريد أن يعالج في فرنسا, ولكي يوفر المسئولون علي أنفسهم هذا الأمر اقترحوا اسمه لكي يشغل هذا المنصب من ناحية ولكي يتكفل المعهد بعلاجه من ناحية أخري.. لكن الفرنسيين رفضوا هذا الاقتراح وطلبوا شخصا آخر.. ولما أعادت مصر اسم هذا الدبلوماسي, اضطرت فرنسا إلي أن تبعث إلي المغرب بطلبها.. وتم ترشيح أحد أساتذة الأدب العربي.. وكان الفرنسيون يضربون كفا بكف.. إذ كيف تقدم مصر دبلوماسيا مريضا في منصب ثقافي وهي بلد طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم؟!
أريد أن أقول إن مصر لم تكن تعرف أن حربا ناعمة ضروسا كانت تشن عليها.. وحتي لو عرفت فلم يكن يتغير شيء.. لأننا كنا ـ ومازلنا ـ نتدثر بمقولات الريادة في الإعلام والثقافة والسياسة ونحن إلي زمن كانت فيه القيادة منعقدة لمصر.. أما اليوم فقد تغيرت معادلات كثيرة داخل العالم العربي وتصدرت دول متوسطة وصغيرة المشهد السياسي والثقافي.. ونحن في مصر منكبون علي أنفسنا متدثرون بمقولات الريادة.. أي أن العالم قد تغير.. أما نحن في مصر فلم نتغير.
والحق أقول: لقد اكتشف هذا الجيل والأجيال الأخري أن مصر دولة بين الدول وأن العروبة التي كنا نفتخر بأنها مرتع لنا هناك دول تري في نفسها أنها المرتع وليس نحن, ناهيك عن بعض الدول الصغيرة التي تسفه من عدد سكان مصر وتري في نفسها رغم ضآلة عددها أنها أجدر بأن تقود العالم العربي, لا لشيء إلا لأنها تملك وفرة مالية ونفطية!!
صحيح أن أهل لبنان قد جاءوا إلي مصر وأنشأت أسرة تكلا الأهرام, وأنشأ جورجي زيدان الهلال, لكن لا ننسي أن هؤلاء هاجروا إلي مصر لأن مساحة الرأي والرأي الآخر كانت متاحة في مصر وليس في بلاد الشام.
أهل مصر يجب ـ في تقديري أن يفيقوا لأن الحرب الناعمة تشن عليهم منذ زمن.. ولا يصح أن يقفز اللبنانيون علي الفضائيات والصحف ليأخذوا المناصب القيادية ولا يتركوا للمصريين سوي المواقع الخلفية.. والحديث عن الفن والغناء والدراما ذو شجون علي أي حال: هذه قسمة ضيظي المصريون السلبيون شركاء فيها لكن هذا لا ينفي أن هناك حربا ناعمة علي كل ما هو مصري.