سعيد حمدان

عند الصحافة الكويتية quot;مانشيتاًquot; جاهزاً على مدار العام عنوانه quot;مجلس الأمةquot; تتحور كلماته حسب المواسم، لكن ضجيجه ودرجة إثارته لا يهدآن، إذا حُل هذا المجلس فهو طامة عظمى وإذا انعقد فهو قضايا ساخنة تتفجر كل صباح في وجه المتابع للحراك الكويتي.

وكلما حاولنا نحن الذين نحب الكويت ونعيش خارجها أن نستوعب ضجيج مجلس الأمة ونتابع مستجداته، وجدناه قضية تستعصي على الفهم، كثيرة التشعبات، لا نعرف الغلبة لمن، وما هي الحكاية، وكيف سيكون المخرج لعقدتها إذا تأزمت -وهي كذلك باستمرار- وماهو الفصل الجديد المنتظر؟

الحراك السياسي في الكويت، وديمقراطية مجلس الأمة فيها، كانا خلال مراحل زمنية نموذجاً وحلماً تتمناه شعوب كثيرة في المنطقة وفي الخليج تحديداً. لكن كيف تم تشويه تلك الممارسة الطليعية وجرّها لتتحول إلى تجربة لا يتمنى أحد تكرارها في بلده!

هل استطاع مجلس الأمة في سنواته الأخيرة أن يضيف رصيداً إيجابياً لهذه التجربة العريقة، وأن يحمي أسس المشاركة الشعبية في هذا البلد، وأن يطور التشريعات، ويساهم ويراقب ويحمي مشروع التنمية في مختلف المجالات، كالصحة والتعليم والإسكان والاقتصاد والوظائف وشؤون المرأة والفنون والرياضة..؟ هل اهتم بقضايا الوطن المصيرية، وهل شغله مستقبل الإنسان الكويتي؟ وماذا قدّم فعلياً في تلك القضايا؟

المسؤول والأكاديمي ورجل الشارع الكويتي هم الأقدر على الإجابة، وهم من يملكون تحديد درجة صدقية الذي تحقق، ومدى وهم أو جدية لغة الخطاب والشعارات التي يرفعها كل طرف ضد الآخر. لكن عندنا نحن الذين نعيش خارج الكويت، لا نجد سوى ضجيج هذا المجلس في مانشيتات الصحف ونشرات أخبار القنوات التلفزيونية الخاصة، وضجيج تيار quot;الإخوان المسلمينquot; تحديداً في عالم quot;تويترquot;.

على هامش مؤتمر علمي حضره حشد من الخبراء والأكاديميين ينتمون لدول عربية مختلفة، حضر ذكر الكويت بقوة وإعجاب بتجربتها، عندما ذكر أحد الخبراء أنه تلقى دعوة من جامعة الكويت للمشاركة بورقة بحثية لمؤتمر يعقد فيها بعد عام من الآن، وكان النقاش بينهم حول ما إذا كانت هناك مؤسسة في عالمنا العربي عندها مثل هذا التفكير المنهجي الذي يجعلها تعد مبكراً لمؤتمر سيعقد بعد سنة وتخاطب الأسماء المرشحة وتبلغها بأن الأعمال التي ستقدم سيتم تقييمها بدقة، أي أنها منحتهم الوقت الكاف لإعداد العمل، وحددت لهم ضرورة التركيز على التجديد والمنهجية والجودة للموافقة على المشاركة. هذا المدخل فتح شهية الحضور على تذكّر المؤسسات العلمية الكويتية ودورها في إثراء المكتبة العربية بسلسلة إصدارات ساهمت في تثقيف وتغذية أجيال عديدة، هذه المطبوعات التي كانت رائدة في الزمن الذي انطلقت فيه، حافظت على جودتها، وكانت الكويت تقدمها، رغم أن الثقافة عملية مرهقة ومكلفة، لا تدر أرباحاً، بل هي تجارة خاسرة، لكن الكويت استمرت على ذلك عقوداً طويلةً، تشجيعاً منها لنشر الفكر وتنمية المجتمعات العربية. فمن ينسى مثلاً كتب quot;عالم المعرفةquot; التي كانت تترجم وتنشر أحدث وأهم المؤلفات العالمية وفي مختلف المعارف والفنون، هذه السلسلة القيّمة كنت تجدها في أغلب معارض الكتب تباع بسعر رمزي لا يغطي تكلفة طباعتها. كذلك المجلات المحكّمة التي قدمتها كليات جامعة الكويت كانت ولا تزال من أهم المراجع الفكرية والبحثية في تخصصاتها والتي لا يستغني عنها أي باحث أو مهتم بالاطلاع والمعرفة، كما هي quot;مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربيةquot;، وquot;المجلة العربية للعلوم الإنسانيةquot;، أو حوليات الآداب والعلوم الاجتماعية... وغيرها. أحد الأساتذة الإماراتيين والذي كان حاضراً هذا الحوار، ذكر لهم أنه خريج هذه الجامعة، ورغم أنه درس بعدها في عدد من الجامعات بدول مختلفة ومارس التدريس الجامعي، إلا أنه يشعر بأن تلك الجامعة كانت هي الأفضل عنده، لأنه تلقى فيها تعليماً جيداً، ولأنها نجحت في أن تكون قويةً ومميزةً ونشيطة في أداء رسالتها التعليمية والبحثية، لأنها كانت تختار بعناية الأستاذ الذي ينضم إليها، وقد نجحت في استقطاب العديد من الكفاءات العربية.

ولم تكن الجامعة وحدها تقوم بهذا الدور التنويري، فهناك جهات عديدة كانت تدعم وتساهم في هذا العمل كالمجلس الوطني للثقافة والفنون، والذي قدم للثقافة العربية مطبوعات مميزة مثل مجلة quot;الثقافة العالميةquot; ومجلة quot;علم الفكرquot;، وسلسلة quot;ترجمات المسرح العالميquot;.. وغيرها.

ولو أن الكويت لم تقدم سوى مجلة quot;العربيquot; لكفاها ذلك ذكراً وإشادة في التاريخ، فهذه المطبوعة كانت أفضل معبر عن مفهوم الوحدة العربية في عصور كانت فيها معظم بلدان الوطن العربي تعاني من ارتفاع الأمية، والعزلة وكثير من الحاجات والأمنيات، ولا صوت إعلامي يربطها أو يصل إليها ويصف حالها. quot;العربيquot; قامت بهذا الدور التثقيفي الطليعي، وعلى صفحاتها نشأ وتعلّم وتثقف جيل من أبناء هذه الأمة. كم صرفت دولة الكويت، خلال حكوماتها المتتالية، على هذه المنابر الثقافية والفكرية، وحرصت على استمراريتها وجودتها؟ هذا مقابل ثروات أهدرتها دول وأنظمة عربية أخرى على تدمير أو تشويه منجزات عندها، وعملت على نشر الجهل والتعصب والبغضاء وتسطيح الثقافة وهدم الفكر وخنق الإبداع ومحاربة العلماء!

أيضاً دور شخصيات الكويت الثقافية والفكرية، والتي ساهمت وأبدعت وتألقت، فمن ينسى أولئك الشعراء الكبار ونجوم المسرح والغناء والتشكيل والرياضة والعمل الخيري... تلك الأسماء التي تركت بصمات خالدة في ميادين عديدة وعلى المستويين القطري والدولي.

في خضم ضجيج حالة المتاهة التي يحاول البعض أن يجر المجتمع الكويتي للعيش في فلكها، وينغمس في تفاصيلها، يجب أن لا ننسى أن للكويت وجهاً آخر، لا يجب أن يتأثر، ولا يشوه. فهي دولة رائدة قدمت الكثير للمجتمعات العربية، وللثقافة والفكر الإنسانيين. حياة جميلة عاشتها مشغولة بالنجاحات، ومسيرة طويلة من الإبداع والتميز لابد أن تستمر، وبذلك الوهج الذي كانت عليه... فذلك الذي يبقى.