عبد الحميد الأنصاري

أظهرت الاحتجاجات العنيفة التي عمت العالم الإسلامي واستهدفت المصالح الأميركية، بسبب الفيلم المسيء، والوضيع إنتاجاً وتمثيلاً ومضموناً، كماً هائلاً من الكراهية والعداء للسياسات الأميركية في المنطقة، ثم قتل السفير الأميركي المتعاطف مع الثورة الليبية و3 من معاونيه في هجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي، وحصلت اعتداءات واقتحامات لسفارات أميركية ومدارس ومطاعم للوجبات السريعة وتم إحراق الأعلام الأميركية وصور الرئيس أوباما، وتعالت الهتافات المنددة بأميركا وإسرائيل في عدد من العواصم العربية والإسلامية، كما طالب البعض بمقاطعة البضائع والمنتجات الأميركية.

لقد صدمت أميركا، إدارةً وشعباً، بحجم هذا العنف المناهض لها وبخاصة في دول تُعدُّ حليفة لها، ودول ساهمت هي بدعم ثورات شعوبها ضد حلفائها السابقين، وتعهدت بدعم اقتصاداتها كما ساندت حكوماتها الجديدة ممن سمتهم بالإسلاميين المعتدلين! عبَّرت وزيرة الخارجية الأميركية عن هذه الصدمة حينما قالت: إن الثورات لم تقم لتسقط ديكتاتوريين وتأتي بغوغائيين! وتساءلت -مندهشة- كيف يمكن أن يحدث هذا في بلد ساعدناه على التحرر، وفي مدينة ساعدنا على إنقاذها من الدمار؟! وكأني بهيلاري كلينتون تقول في نفسها مستنكرة: لماذا هذا الجحود ونكران الجميل من قبل أناس ساهمنا في تحريرهم من نظامهم الوحشي الاستبدادي؟!

ولهيلاري التي قد تجهل طبيعة النفسية العربية المتقلبة، أن تشعر بمرارة أعمق، حينما يحتشد بعض نواب المعارضة مع مواطنين كويتيين أمام السفارة الأميركية في الكويت، محاولين اقتحامها، رافعين لافتات تطالب أميركا بالاعتذار الرسمي عن الإساءة مع التعهد بعدم تكرارها! فيما ردد البعض هتافات: quot;يا أوباما كلنا أسامةquot;، ويلقي أحد زعماء الأكثرية في البرلمان المنحل بحكم المحكمة الدستورية، محمد هايف، كلمة في المحتجين، صارخاً: صداقة أميركا تحت نعالنا، حينما يُساء لنبينا!

تصدر مثل هذه الكراهية العميقة لأميركا في بلد هو الأوثق والأخلص تحالفاً وصداقة مع أميركا التي لولا قيادتها للتحالف الدولي لتحرير الكويت من قبضة النظام الصدامي الرهيب، ما نعمت الكويت بالحرية والاستقرار!

من حق الأميركيين أن يُصدموا كما صدموا صبيحة يوم الحادي عشر من سبتمبر 2001 التي أودت بحياة ثلاثة آلاف أميركي من غير ذنب، ومن حقهم أن يتساءلوا اليوم كما تساءلوا من قبل: ماذا فعلنا؟ ماذا جنينا؟ لماذا يكرهوننا؟!

انشغلت الساحة الأميركية في سياق الصراع المحتدم نحو انتخابات الرئاسة بهذه التساؤلات، وبأسباب ومصادر الكراهية للسياسات الأميركية في المنطقة في عصر quot;الربيع العربيquot; ووصول الإسلاميين إلى السلطة، واحتدمت النقاشات حول أسباب حدة ودموية الاحتجاجات ضدها وبخاصة في دول تعد من حلفائها!

الاستغراب الأميركي هذه المرة، أن الإساءة للدين الإسلامي أتت من أفراد حاقدين في المجتمع الأميركي ولا علاقة للإدارة الأميركية أو المؤسسات الرسمية بها، وأكدت الإدارة الأميركية رفضها واستهجانها للفيلم المسيء ووصفته هيلاري بأنه مٌقرف ومُدان، إلا أن كل ذلك لم يشفع لها لدى الجماهير الغاضبة التي رأت في الفيلم المسيء مخططاً أميركياً صهيونياً للإساءة إلى الإسلام والمسلمين، وطالبت بمحاكمة من أنتج وأخرج الفيلم بل وإعدامهما. ومؤخراً، رصد وزير باكستاني مكافأة بـ100 ألف دولار لمن يقتل مخرج الفيلم! ومما يضاعف من صدمة الأميركيين ومراراتهم، أن سياسة الإدارة الأميركية بقيادة أوباما على النقيض من سياسة سلفه بوش في العلاقات الخارجية بالعالم الإسلامي، إذ لطالما اتهم الديمقراطيون (حزب أوباما) الجمهوريين وبالأخص من سمونهم بالمحافظين الجدد بقيادة بوش، بأنهم تسببوا في تفاقم وانتشار مشاعر الكراهية لأميركا بسبب سياساتهم القائمة على الحرب الاستباقية والتدخل المسلح والضغط والإكراه تحت شعارات الحرب على الإرهاب، وفرض الديمقراطية، وتغيير البيئة التعليمية... في العالم الإسلامي، فجاء أوباما مُبشراً برسالة جديدة، ومدَّ يده إلى العالم الإسلامي بقلب مفتوح وعمل جاهداً على كسب قلوب ومشاعر المسلمين عبر تصحيح سياسات من سبقوه، فقدّم مراجعة نقدية شاملة للقضايا المتوترة في خطابه للعالم الإسلامي -يونيو 2009- وتعهد بعدم التدخل لفرض الديمقراطية لأن الشعوب أدرى بمصالحها، وأقلع عن شعار (الحرب على الإرهاب) الذي فسره الإسلاميون بالحرب على الإسلام، وقرّر حرية كل دولة في مكافحة الإرهاب بأسلوبها، وأطلق سراح معتقلين في جوانتنامو، ومنع المحاكمات العسكرية واستنكر أساليب التعذيب، ونفّذ تعهده بالانسحاب من العراق، وأشاد بالإسلام والمسلمين كثيراً حتى ظن بعض الأميركيين أن رئيسهم مسلم يخفي إسلامه، وتودّد إلى quot;الإخوانquot; في مصر عبر وسطاء، فأقنعوه أو حاولوا إقناعه بأنهم الإسلام الوسطي المعتدل وأن التعاون معهم ودعمهم للوصول إلى السلطة أجدى من دعم الأنظمة السابقة في بلاد quot;الربيع العربيquot; التي تتلقى المساعدات الأميركية، لكنها تترك المنابر الإعلامية تشوّه وتتهم أميركا بعداوة العرب والمسلمين. أوهم quot;الإخوانquot; الإدارةَ الأميركيةَ بأن التحالف معهم، كفيل بتصحيح صورة أميركا في المنطقة، كما تعهدوا بكبح جماعات التشدد الإسلامي التي تنشر كراهية أميركا باعتبار أنهم المؤهلون دينياً، أكثر من العلمانيين والليبراليين، لمواجهة الإسلاميين المتطرفين، وبنفس أسلحتهم الدينية وفي نفس خندقهم! وهكذا أيَّدت واشنطن وصول quot;الإخوانquot; إلى الحكم في بلاد quot;الربيع العربيquot; وراهنت عليهم في تصحيح صورتها لدى المسلمين. وتأتي هذه الاحتجاجات العنيفة لتختبر مصداقية هذه الرهانات ومصيرها! والمؤكد اليوم أن الرهانات فشلت وأن صورة أميركا في المخيال العربي العام لا زالت سيئة -إن لم تكن أسوأ- ولم يستطع الإسلاميون الحاكمون الالتزام بوعودهم لأوباما مما أحرجه أمام خصومه، وأغضبه، فأجل لقاءه بالرئيس المصري والتفاوض في شأن المساعدات وإسقاط الديون.

ومع أن قادة ورموز quot;الإخوانquot; والإسلام السياسي في بلاد quot;الربيع العربيquot; وفي الخليج حاولوا جاهدين تهدئة الجماهير بالدفاع عن أميركا وتأكيد عدم مسؤوليتها وبراءتها ورفعوا شعار quot;الرد الحضاري والعقلانيquot;، وهم الذين كانوا يقيمون الدنيا ضد أميركا ولا يقبلون اعتذاراً، ويقودون المظاهرات ويصدرون فتاوى المقاطعة ويصفون أميركا بأنها عدوة الإسلام والمسلمين كما في خطب أشهر رموزهم في الخليج، لقد كانوا في المعارضة واليوم هم في السلطة، والحاجة المصلحية تقتضي عدم إغضاب أميركا! لذلك وجدنا quot;الإخوانquot; يسحبون دعوتهم لمليونية quot;إلا رسول اللهquot;، ليبقى السلفيون وحدهم يقودون الاحتجاجات الغاضبة. لقد تغيرت المعادلات وافترق حلفاء الأمس، سلطة ومعارضة، وسبحان مغير الأحوال! خصوم أوباما يتهمونه بفشل رهاناته على الإسلاميين، والإدارة الأميركية تخدع نفسها متوهة أن الاحتجاجات بسبب الفيلم المسيء لا السياسات والرهانات!