يوسف الديني

من المبكر الحديث عن بديل فاعل للإسلام السياسي، حتى في ظل كل الإخفاقات السياسية التي يعيشها الحكام الجدد (الإخوان) على مستوى الداخل والخارج، لكن من المهم القول إن جزءا من نجاح laquo;الإسلام السياسيraquo; في مرحلة الثورات وما بعدها، هو انعكاس لفشل أي بدائل أخرى تملك حضورا على الأرض.

حضور الإسلام السياسي على الأرض جاء بتضافر عوامل كثيرة فهو يستند إلى خطاب شعبوي وثوقي، وماكينة دعائية قوية، ومنابر دينية تغطي كل المناطق، كما أن لديه قدرة مذهلة على laquo;شيطنةraquo; المخالفين.

هذه المهارات لم يكن يمتلكها laquo;الإخوانraquo; وحدهم، فالخطاب السلفي هو الأكثر فاعلية على الأرض، والأكثر امتلاكا للمنابر، لكنه الأقل قدرة فيما يخص الماكينة الدعائية؛ إضافة إلى دخوله المتأخر لمعترك السياسة بعد أن كان متكئاً على نظرية laquo;ولي الأمرraquo;، ولولا هذا التحول المفاهيمي الأخطر والأكثر تأثيرا، لتغير جزء كبير من المعادلة.

هذا التغير للتيارات الإسلامية الشعبية العريضة صاحبه تحالف من قبلهم مع الإخوان، وتحالف فئات وتيارات سياسية أخرى، كانت مدفوعة لمناهضة laquo;الأنظمةraquo;، بعد أن سهل شيطنة laquo;الفلولraquo; المصطلح العائم والغامض. ومن هنا دخل الإسلام السياسي بوابة السلطة من بابها الضيق وهو التحالفات المبنية على شرعية محددة، فشرعيته لدى السلفيين هو تطبيق الشريعة بالمعنى الآيديولوجي laquo;الحاكميةraquo;، وشرعيته عند حلفائه السياسيين الحفاظ على التعددية السياسية، والتقدم نحو الدولة المدنية بخطى سريعة، لكنه عجز عن تحقيق المطلبين، فالأول يسقطه من المعادلة السياسية المقبلة لأنه لم يأت بانقلاب يتيح له التفرّد السياسي، كما أن البقاء في ملعب الديمقراطية المتغيّر والمتجددّ هو انتحار للذات، حيث قامت هويّة الجماعة على رؤية شمولية آيديولوجية لا تقبل هذا النوع من التجريب السياسي وإن كانت تستخدمه للوصول كما رأى الجميع. بالتالي، إذا انهارت شرعية الداخل بسبب عدم رضا الحلفاء وتربص المخالفين، فإن شرعية الخارج أكثر ارتباكا بسبب عدم الانتقال إلى laquo;منطق الدولةraquo;. فالكل، أعداء وعشاقا ومخاصمين ومتحفظين، يتحدث عن laquo;الإخوانraquo; وليس عن laquo;مصرraquo;، يتساءل هذا: ماذا يفعل الإخوان بإيران؟ ويعلق آخر على أهمية تحالف بين الإخوان ودول الخليج، وثالث يرصد حالة الارتخاء بين الإخوان وتركيا. وهذه الأسئلة وإن كانت مشروعة بهذه الطريقة إلا أنها تكريس لخطيئة سياسية كبرى؛ لأنها تجذّر laquo;الإخوانraquo; كفصيل سياسي حاكم بأمره، وليس كممثل لتحالف سياسي أوسع يبحث عن مصلحة laquo;مصرraquo; وليس الجماعة.

من جهة ثانية فإن ارتخاء العلاقة بين laquo;الإخوانraquo; ونموذجهم الملهم ما قبل الثورة laquo;تركياraquo; ومن ثم الانقلاب على النموذج التركي وتجاهله ساهم في اقتراب الجماعة من النموذج الشمولي laquo;الإيرانيraquo;، كما أن تركيا ذاتها تراجعت في احتفائها بالناجحين الجدد في سلك الإسلام السياسي بسبب تورّطها في الملف السوري على نحو متحيّز، كما أن رد الفعل laquo;المفاجئraquo; الذي جوبه به أردوغان في مصر، وسع الهوّة بين نموذجين مختلفين من الإسلام السياسي التركي والمشرقي، الأول ابتلع العلمانية وهضمها، بينما الثاني بالكاد تذوق الديمقراطية فأصيب بشره محموم للسيطرة على كل الأطباق.

بعد أيام قلائل تحلّ ذكرى رحيل عبد الناصر، وهو التوقيت الذي تم اختياره لتنصيب laquo;التيار الشعبيraquo; كبديل للإسلام السياسي في مصر، وقبلها في تونس يمكن أن نلحظ ارتفاع منسوب الممانعة لحزب النهضة، الذي تراجعت شعبيته جدا في الداخل التونسي، وما زال يعاني الارتباك ذاته على مستوى الخارج، وفي اليمن بقي الحال على وضعه ما قبل الثورة بين الإخوان وبقية أحزاب اللقاء المشترك فيما يشبه التحالف القبلي المبني على الغنيمة السياسية، وفي لبيبا لم يستطع الإخوان ولا التيارات المدنية الإمساك بشيء حتى الآن في ظل تعميم حالة الفوضى من قبل الميلشيات المسلحة، والذي يبدو أنه سيستمر إلى أجل غير مسمى.

والحال؛ أنه مهما حاول حمدين صباحي ورفاقه تقمّص شخصية عبد الناصر أو استعارة عباراته ولزماته الشهيرة laquo;الشعب هو المعلمraquo;، ومهما حاول الاستعانة بوجوه سياسية جديدة أو حتى بشخصيات من الوسط الفني، فإن ذلك لا يعد بالكثير على الأرض، وإن كان سيشكل ضغطا laquo;إعلامياraquo; على الإخوان بسبب تغطية القنوات لتحالفات من هذا النوع وغيابها الكامل على أرض الواقع.

غياب laquo;البديلraquo; لا يرجع فقط إلى ضمور وترهل الفكر السياسي للأحزاب الناصرية واليسارية والقومية، ولكن أيضا لأنها لا تملك بديلا مقنعا لا على مستوى القيادات، ولا على مستوى الخطط والبرامج، كما أنها - وهذا عامل عادة ما يتم تجاهله - laquo;مفلسةraquo; في رصيدها السياسي مع الخارج، فخطابها السياسي قام على مسلمّات من الزمن القديم كمقاومة الامبريالية.. الخ. كما أنها - ولأسباب تتصل بالخطاب المؤدلج - لا تحظى بأي علاقات جادة مع الخارج لا الغرب ولا دول الخليج ولا حتى تركيا، بل وعلى العكس تماما ما زالت ترسل رسائل خاطئة للجميع، فهي تنتقد بحدّة التحالف الأميركي الإخواني وكأنه تحالف مقدس، وتحذر من الخليفة التركي، وترجع كل أسباب التطرف الديني إلى فكر مستورد من الخليج، وواحد من هذه التصورات الساذجة كفيل بأن يقذف بك خارج المعادلة الإقليمية.

فرصة تحالفات من هذا النوع، تأتي من خلق شرعية جديدة في الداخل، ووعي مختلف مع القوى الخارجية، ومثل هذا ما زال بعيدا حتى الآن، فعلى سبيل المثال على الرغم من أن حمدين صباحي اليساري القومي احتل المرتبة الثالثة في الانتخابات الأخيرة فإن ذلك الحضور اللافت المبني على ميراث عبد الناصر داخل شباب الثورة، قد ضعف بشكل كبير بعد أدائه وتصريحاته تجاه الإخوان وضد التيارات الأخرى ومنها تيار أحمد شفيق. وإذا كانت الأحداث الآن التي تشي بتراجع laquo;الإخوانraquo; بين قوى سياسية كثيرة، يمكن أن تلعب دورا فاعلا في إعادة الثقة بحمدين صباحي وتياره الشعبي الجديد إلا أنها بحاجة إلى اكتساب مساحات جديدة كالأقباط والقوى التي صوتت دون تردد لشفيق والعائدين من laquo;الحلم الإخوانيraquo; من النخبة التي ساهمت في لحظة الثورة في إرباك المشهد.

التحالفات الجديدة بين laquo;بدائل الإسلام السياسيraquo; المحتملة يجب أن تكون متعقلة في خطابها وإلا خسرت أضعاف ما خسرته في السابق. ومن هنا فإن خطابا مثل ما قاله كمال أبو عيطة الذي وصف الإخوان بالطغاة الجدد، قد يأتي بنتائج عكسية إذا لم يستند إلى برنامج إعادة تأهيل سياسي على الأرض وليس فقط من على الفضائيات التي من السهل على أي فصيل، فضلا أن يكون بحجم laquo;الإخوانraquo; أن يسقطه بسهولة بدعوى أنه معطّل لمسيرة النهضة المجيدة.

الأكيد أن laquo;بديلاraquo; للإسلام السياسي في طريقه لأن يولد من رحم الإخفاقات الكبيرة على مستوى الداخل والارتباك على مستوى الخارج، لكن من السهل إجهاضه في ظل إعادة الأخطاء السابقة من القوى السياسية المدنية والتي تعيش في هذه الفترة أسوأ حالاتها، ومن هنا فإن نجاح laquo;البديلraquo; مرهون بأسباب خارجة عن تلك القوى، وأبرزها من وجهة نظري الانقسامات الحادة التي ستواجه laquo;الإسلام السياسيraquo; من حلفائه من السلفيين وتيارات الجهاد والتيارات المسلحة والأحزاب الوسطية المتأرجحة بين الإيمان بمدنية الدولة وبالمرجعية الإسلامية لكن بشكل غير شمولي كما تكرسه الجماعة الأم التي قال مؤسسها حسن البنا ذات يوم laquo;إن دعوتكم ما زالت مجهولة عند كثير من الناس، ويوم يعرفونها ويدركون مراميها وأهدافها ستلقون منهم خصومة شديدة وعداوة قاسيةraquo;!