فهد سليمان الشقيران


كان الخليج ولا يزال لديه حيزه الإشكالي المختلف عن بقية المجتمعات المحيطة به، ذلك أن نمط الانتقال الذي يعاش في الخليج لم يكن سياسيا وإنما بني على موضوعين، هما الاقتصاد، والثقافة الشعبية المشتركة. وهذا الحيز هو الذي مكنه من الاحتماء بعيدا عن شرر الاضطراب الذي يمس المجتمعات المحيطة به.

ربما كانت الميزة الأهم لدى المجتمعات في الخليج بكارة الأسئلة وتوفر بداهاتها، فالأسئلة التي تطرح ليست سياسية بالمعنى العميق، ذلك أن الإشكال بين المجتمعات الخليجية والسياسة ليس مطروحا وذلك بسبب اختلاف بنية التداول السياسي عن الدول الأخرى. بداهة الأسئلة الخليجية ليست سياسية بقدر ما هي متعلقة بأسئلة القطيعة مع الماضي، وهجر التقاليد، وتجديد وسائل التعاطي الاجتماعي مع الآراء، والبدء في تصحيح الفكر الديني.. فهي أسئلة وبداهات ثقافية وليست سياسية، وهذا ما يجعل الخليج متفوقا من حيث بداهات الأسئلة على المجتمعات التي غيرت ساستها لكنها عادت إلى مربع السؤال الأول، وهو السؤال الثقافي العميق الذي يشترك فيه جميع العرب والمسلمين.

وإذا تصفحنا عناوين الندوات التي أقيمت في مراكز ثقافية في العواصم الخليجية أو بعضها فسنجد المطروح بمجمله يأتي في سياق أسئلة الآخرين، وبالأخص في الندوات ذات الطابع الآيديولوجي والتي يقودها بعض الإخوان المسلمين في الخليج، حيث تعاش أسئلة الآخرين اللحظية والتي لا تشكل عبئا علينا، غير أن المفاهيم التي يجب أن تدرسها تلك المؤسسات والمراكز لا تزال مستبعدة، وهذا يعود إلى ضعف الوعي بالبداهات الأساسية التي لا بد من الخوض فيها، والسجال حولها، وفتح أضابير ألغازها ومضمرها.

ليست وظيفة المؤسسات الفكرية أو المراكز الاستراتيجية أن تغفل عن الأحداث أو تتركها، ولا أن تبجلها وتعيشها لحظيا وكأنها تمسها، لكن يمكن الحديث عن هذه الإشكالات في ظل أولوياتنا. أسئلة كثيرة اختفت عن المشهد من مثل سؤال الهوية وتصاعدها خلال السنوات القليلة الماضية، وعودة القبيلة، واشتداد الضغط الديني المتطرف، ولعل سيولة المعلومة التي لم تضبط عبر أيقونات التواصل الاجتماعي شكلت جوا عاما للجميع، وما الغرق في نقاش مشكلات الآخرين إلا عنوان جبن وهروب من مواجهة الثقافة.

دلت الأحداث على طول التاريخ، أن الشجعان هم الذين واجهوا الثقافة وأسئلتها، غير أن جبناء كثرا كانت لهم جماهيرية بسبب اتجاههم للتغيير السياسي المحض، وهو تغيير أجوف لا يحمل أي قيمة حضارية أو تنموية.

من السهل أن تقام ندوات حول الديمقراطية والحرية والعدالة، لكن هل من السهل على أي رئيس مؤسسة فكرية أن يدرس وبشجاعة مسائل الهوية والفكر الديني وآراء المختلفين ومحاور المجتمع وأعطاله؟! ثمة نزعة كبرى تمارس حاليا في الخليج وتتجلى تحديدا في اختيار أسئلة الآخرين، وعيش ظروف الآخرين، والاهتمام بإشكالات الآخرين، وهذا ليس عملا ثقافيا بل هو انهماك في laquo;نسيان المهمraquo; بغية الحديث عن المستهلك من المشكلات والأوضاع والحالات والأحداث.

شجعت التيارات الأصولية في الخليج على تأجيل الأسئلة الثقافية وذلك عبر فتح المشاكل الخدمية، أو الضخ بمجال الاعتراض السياسي، وهو خروج عن المتن إلى الهامش، وإلا لو كانت هذه التيارات تريد فعلا الخروج من الأزمات التي تعاش اجتماعيا لتقبلت أن تدرس الثقافة بكل مكوناتها، ولحاولت استقبال كل الأسئلة المقلقة، ولتفاهمت مع التيارات الأخرى، لكن فشلها الأخير عجل بانفضاحها مما جعلها أسيرة لأيقونات التهييج المعلوماتي، واستعمال كل أساليب التشويه لإعمال الشغب السياسي، بدلا من الحوار العمومي، أو الثقافي، وأنى لها ذلك؟! ذلك أن بنية التيار الأصولي ليست بنية فردية بل جماعية، وبالتالي لا يمكن أن تعيش الجماعة أسئلتها، إذ السؤال من خصائص الفردانية البحتة والتي تؤمنها النظرية الليبرالية بكل تجلياتها الحديثة والمثمرة في العالم.

في دراسة مهمة لألتوسير يدرس فيها مونتسكيو وعنونها بـlaquo;مونتسكيو.. السياسة والتاريخraquo;، نقرأ عن الحروب الأهلية في القرن السادس عشر، ويشير مونتسكيو هذا الفيلسوف الفرنسي إلى أن القرن السادس عشر كان قرن laquo;النزعة الغرائبية السياسيةraquo;، تلك المرحلة لم تدرس سياسيا أو حزبيا أو على طريقة الاستهلاك العام، بل كان القرن السادس عشر وما حدث فيه من حروب هو وقود أسئلة قاربها هولباخ وديكارت وهوبز وأسبينوزا وفيورباخ وروسو، وصولا إلى ماكس فيبر وهيدغر ونيتشه. المسألة ليست تقنية في الأزمة الحربية الأهلية، بل ثقافية وفلسفية في عمقها، من هنا تكون الأسئلة مخيفة لهذه التيارات التي لا تريد مناقشة أولوياتها.

شجعان هم أولئك الذين تصدوا للمعاني القلقة داخل أسوار الثقافة، التضييق عليهم لم يكن اعتباطيا، ذلك أن ما يكتبونه كان يرسم التغيير الحقيقي، والكلمات التي تغير العالم تلك التي ينخفض فيها الصوت، وعلى حد تعبير نيتشه: laquo;إن الكلمات الأكثر هدوءا هي التي تستدرج قدوم الإعصار، وإن كلمات تتقدم على أرجل حمام لهي التي توجه العالمraquo;. فهل نواجه حالنا بالتغيير الثقافي، وبالاستفهام عن كل ما يحيط بنا، من الهوية إلى التطرف إلى أعراف القبيلة؟!