عبدالملك بن أحمد آل الشيخ

التطورات السياسية في منطقة الشرق الأوسط، ما بعد استخدام النظام السوري الأسلحة الكيماوية ضد المدنين العزل، وتلكؤ الإدارة الأميركية في الوفاء بما وعدت به من رد قوي وحاسم على النظام السوري (في حال تجاوزه الخطوط الحمر التي وضعها له الرئيس باراك أوباما ومنها استخدامه السلاح الكيماوي المحرم دولياً)... أدت إلى تساؤلات كبيرة ومشروعة لدى النخب السياسية في المنطقة حيال السياسات الأميركية المستقبلية في منطقتهم، ومدى تعويل حلفاء الولايات المتحدة الأميركية عليها، خصوصاً بعد العودة القوية لروسيا كلاعب رئيسي في سياسات المنطقة.

إلا أن المتابع للسياسة الأميركية وأدبياتها (من خلال ندواتها وحواراتها السياسية وإصدارات بعض مفكريها، ممثلة في بعض جامعاتها ومراكز التفكير، حول الدور الأميركي المستقبلي في الشرق الأوسط بعد تجربة غزو العراق)، يدرك مدى اتساع دائرة تلك النخب الأميركية المطالبة بتقليص الدور العسكري المباشر في الشرق الأوسط، يوماً بعد يوم (باستثناء المهام العسكرية المحدودة لمكافحة الإرهاب) والركون إلى سياسة إطفاء الحرائق بدلاً من إشعالها، من خلال توسيع دائرة الحلول السياسية، كما يدرك التأثير الواضح لتلك النخب على سياسات الرئيس باراك اوباما.

وعكـس خــطـاب أوبامـا فـي 24 أيــلـول (سـبـتمبر) الماضي أمـام الجمعية الـعامـة للأمـم المتحدة، تبني الإدارة الأمــيركية الواضـح لهذا الدور، ســواءً في الـملـف الـسوري أم في الـملف النووي الإيراني. وقد يكون هذا التـحـول في الـسـيـاسة الأمـيركية أمـراً مسـتغرباً لدى البـعض في منـطقـتنا، إذا مـا قورن بالـسـياسة الأميركية في عهد الرئيــس بوش الابـن، إلا أن هذا الاستغراب سـرعان ما يتلاشى إذا علمنا أن الرئـيس أوبـاما ليـس الرئـيس بـوش الابـن. فقـد شــخص أسـتـاذ الـقـانون في جامعة هارفرد رئيـس فريق بـرنامج الـتـفاوض في كـلية القـانونraquo; Robert Manookin laquo; في كـتـابة laquo;التـفاوض مع الشــيطان: متـى تُـفاوض ومتـى تُـحاربraquo;؟

Bargaining with the Devil when to Negotiate when to Fightrdquo;raquo; الصادر عام 2010 شخصية كل من الرئيس بوش الإبن والرئيس باراك أوباما، وسِماتِهما القيادية وموقـفهما من التفاوض مع الدول المارقة بحــسب تعـبيره، وهو يـوضح أن بوش ليـس بالرئـيـس المـثقـف الذي يـعتـمد على مستشاريه أوعلى رأي النخب المثقفة في اتخاذ قراراته السياسية، بل يعتمد على غرائزه القيادية عند اتخاذه القرارات، وهو لا يعتمد على حسابات المكاسب والخسائر، بل يعتمد على ما يقتنع ويدين به، ونادراً ما يخالف الفريق العامل معه قراراته عند الحديث عن المكاسب والخسائر، بل يُذعِنون لرأيه. وخير دليل على ذلك القرار الذي اتخذه لغزو العراق.

كما أن الإدارة في عهد بوش الابن لم تبد أي إشارة إلى رغبتها في التفاوض مع الدول المارقة، بل كان خطابها يبين عكس ذلك تماماً. وهذا ما أكّده نائب الرئيس ديك تشيني بعد أحداث 11 سبتمبر بفترة قصيرة حين قال أن لديه توجيهاً من الرئيس بوش laquo;من أننا لن نفاوض أياً من الطغاة في العالم فنحن لا نفاوض الشيطان بل ندحرهraquo;. ويبين الكاتب أن رفض بـوش التـفاوض مـع أنـظمة بعينها، يجعله يعتمد على الـحدس العاطـفي لديـه وليـس على الخيارات البراغماتية التي تـصـب في مـصلـحة الـشـعب الأميركي، فقد كان خطاب بوش أخلاقياً أكثر مما يجب وغالبـاً ما كـان حـاداً يستخدم فيه عبارات كالشياطين، والخير والشر، والدول المارقه.

ويسترسل الكاتب في وصفه شخصية الرئيس بوش القيادية وتأثيرها في اتخاذ القرارات، فهو مثلاً لم يفاوض صدام حسين بل أمر بغزو العراق، كما رفض التفاوض مباشرة مع إيران وكوريا الشمالية حول برنامجهما النووي. ويؤكد الكاتب أن قرارات بوش ربما اعتمدت كثيراً على حدسه الأخلاقي أكثر من التقييم الحذر والبراغماتي للخيارات المتاحة.

ويـرى الـكـاتب أن خـطاب أوبــامـا واسـتراتيـجيـته يتوافقـان مـع منـهجه (اي منـهج الـكاتب) فـي خـيار التفـاوض مـع الـدول، وهو يـؤيد أوبـاما في خـطاباته البليغة والتي لم يُـوجه فـيـها الإهانـة الى أي من رؤســاء الأنــظمة الذيـن يخـتلف مـعـهم، بــمعنى آخـر فإن أوبـاما لا يـملك الرغــبة فقــط فـي الـتـفاوض مع الـشـيطان بل أن خـطابه واسـتراتيجيته السيـاسية يـظهران تـفضيله هذا الخيار.

فهل نرى في الآتي من الأيام دخول الولايات المتحدة في سلسلة من المفاوضات مع دول تجاوزت كل الخطوط الحمر، الأوبامية منها والإنسانية، لتؤكد رؤية الكاتب بأن التفاوض مع الشيطان أصبح خياراً استراتيجياً أميركياً؟