عبدالوهاب بدرخان

بلبلة غير مسبوقة في صفوف المعارضة السورية. تقابلها حملة إعلامية لبشار الأسد لإعادة تسويق النظام كطرف مقبول دولياً. كان احتمال الضربة العسكرية للنظام لحظة مفصلية انتظرتها المعارضة وخسرتها، ثم فقدت معها أي ثقة بتطوّر خارجي لمصلحتها. أما تسليم السلاح الكيماوي فيحاول النظام تقديمه كدليل على صدقيته، وعلى أنه الدولة التي اضطر المجتمع الدولي للتعاطي معها، ما أنعش laquo;شرعيتهraquo; المهتزّة بفعل سلسلة طويلة من الجرائم والانتهاكات الموثّقة.

لم يعد هناك تكافؤ في رهانات الطرفين، أما التوازن في المعادلة القتالية فيبدو أنه رغم صموده الهشّ بلغ نهاية مرحلة. من الواضح أن نهج التقارب الأميركي - الروسي في تسوية مسألة السلاح الكيماوي سدّد ضربة للمعارضة التي تصنفها واشنطن laquo;معتدلةraquo; ويمكن الاعتماد عليها. ليس فقط بالرضوخ لشروط موسكو في الملف الكيماوي، بل لأن معارضة الداخل بمختلف أطيافها لمست خذلاناً فجّاً في تجاهل مجزرة الغوطتين. سقطت في الداخل كل الآمال والأوهام التي بنيت على الخارج، خصوصاً مع انكشاف أن laquo;صفقة الكيماويraquo; ترمي إلى التمهيد لـ laquo;صفقة جنيفraquo;، وإلا فما الذي سمح لسيرغي لافروف بالقول إن الشركاء الغربيين مطالبون بـ laquo;إجبارraquo; المعارضة على الحضور والمشاركة.

لذلك ساد الأسبوعين الأخيرين خلطٌ للأوراق في صفوف المعارضة. تغيّرت الخريطة على الأرض وستواصل تبدّلاتها في الأيام المقبلة. وحتى laquo;الجيش الحرraquo; وجد نفسه أمام اختبار حاسم لمكانته ودوره: فمن جهة شعرت قيادته بأن كل الوعود التي تلقتها من الأميركيين والأوروبيين كانت مجرد كلام تخديري وأنهم أضاعوا أكثر من سنة في التسويف والتخويف من الجهاديين المتطرفين ولم يستمعوا إلى تحذيراته وهو العليم بميزان القوى على الأرض، ومن جهة أخرى تبيّن لهذه القيادة أن الجميع - النظام مع روسيا وإيران، وأميركا مع حلفائها - تضافروا ضمنياً أو موضوعياً للمساهمة في صعود المتطرفين، من laquo;جبهة النصرةraquo; إلى laquo;الدولة الإسلامية للعراق والشامraquo; (داعش) وغيرهما... وصولاً إلى أن تصدر موسكو تقديراً يناسبها، مفاده بأن ميزان القوى المعارضة يشير إلى صعود الإسلاميين، بل وصولاً إلى تسريب معلومات مشتبه بها عن اتصالات بين الجيشين laquo;الحرraquo; وraquo;النظاميraquo;.

تطلّب الوضع المضطرب أن يجري laquo;الائتلافraquo; وraquo;الجيش الحرraquo; مراجعة عاجلة، فهناك فصائل عسكرية حسمت أمرها وشرعت في عقد تحالفات جديدة ولم تعد مترددة في التقارب مع الاتجاه laquo;القاعديraquo;، فيما جهرت فصائل سياسية بتبرّؤها من laquo;معارضة الخارجraquo;. ثمة سببان مباشران لهذا الاضطراب، أولهما اختيار laquo;الائتلافraquo; لحظة غير مناسبة لإعلان قبوله التكتيكي بالمشاركة في laquo;جنيف 2raquo; بالتزامن مع انشغال الدول الكبرى بخطب ود النظام لإعلان التزامه تدمير مخزونه الكيماوي، والثاني ذيوع ما يشبه القطيعة بين واشنطن وقيادة laquo;الجيش الحرraquo; بدليل موقف اللواء سليم إدريس من laquo;اتفاق كيري - لافروفraquo; ورفض الأميركيين منحه تأشيرة ليأتي مع وفد laquo;الائتلافraquo; إلى نيويورك. لذلك أتخذ لقاء إسطنبول بين إدريس والسفير روبرت فورد طابع المصارحة والمصالحة، ولو مع انعدام الثقة المتبادلة.

لكن، فوق هذا وذاك، وبسبب الحال العدائية البحتة التي أقامتها laquo;داعشraquo; مع laquo;الجيش الحرraquo; في الرقّة ومناطق أخرى، فإن ما يفسر إعادة رسم الاصطفافات بين القاعديين وغير القاعديين اعتبار كثيرين أن الإعداد لمؤتمر جنيف والذهاب إليه باتا إشارة إلى البدء بمحاصرة الفصائل المتطرفة بغية تصفيتها أو تقليص حضورها. هذا ما تشترطه جهات كثيرة، من واشنطن إلى دمشق مروراً بموسكو وطهران ولندن وباريس فضلاً عن عواصم عربية عدة. لكن الجميع يرغب في نسيان كيف انزرعت ظاهرة المتطرفين هؤلاء، ومَن دفعها إلى إقحام نفسها على المعارضين السوريين، ومَن موّلها وفتح لها الممرات ومنحها تسهيلات التسلّح، لكن الأدوار المتداخلة على نحو مذهل تجعل من محاربتهم الآن مواجهة شاملة بالوكالة بين laquo;أصدقاء وأعداءraquo; أو حتى بين مجرد laquo;أصدقاءraquo;. فالداخل السوري الذي بدأ مشرذماً أفشل الأصدقاء والأعداء إمكانات توحيده، كلٌ بأسلوبه ولأهدافه. ليس مفهوماً لماذا قصّرت المعارضة في كشف أدوار النظام وإيران وأطراف عراقية في إدخال هذه الجماعات إلى نسيجها طالما أن عناصر في laquo;جبهة النصرةraquo; معروفون لديها بأنهم صنيعة النظام. ربما كانت الحاجة إلى أي جهد قتالي مبرراً للسكوت في مرحلة معينة، لكن سلوك هذه الجماعات بالاستئثار والسعي إلى إقامة laquo;إمارات إسلاميةraquo; وفرض القيود على الناس كانت كافية لاتخاذ موقف مبكر منها.

هل توصّلت لقاءات إسطنبول أخيراً في رأب الصدع بين laquo;الائتلافraquo; والمستائين في الداخل، وفي تبديد التنافرات بين قادة المجالس العسكرية؟ لا شيء مؤكداً، وسبق أن بذلت محاولات مماثلة ثم تبين أنها لم تفلح. لكل مدينة - جبهة تجربتها التي لا تعرفها الجبهات الأخرى، فظروف المحاصَرين الصامدين في حمص والرستن أو في معضمية الشام تختلف عن أوضاع المدافعين عن حلب والمفتوحة خطوطهم حتى تركيا، أو العسكريين المتقدمين في درعا. هناك من اضطر للتعايش مع الجهاديين، وهناك من احتاج إلى مساندتهم، وكذلك من استطاع إبعادهم. وكان من الطبيعي أن ينعكس اختلاف الأحوال وقسوة المعاناة وندرة المعونات على علاقات الأشخاص، خصوصاً أن الظروف لم تتح تنظيماً موحداً للمساعدة بالمال والإغاثة والسلاح، ثم إن الجهات المساندة لم تعدم التنافسات بل الصراعات في ما بينها.

تبدو هذه البلبلة في صفوف المعارضة كأنها تأتي شكلاً وتوقيتاً على النحو الذي أراده النظام، فهو مَن استدرجها إلى التعسكر ثم إلى التطرّف ثم إلى تسوّل الدعم، وها هو الأسد يعيّرها بما دفعها إليه، بل انه يحاضر اليوم في laquo;تعريفraquo; المعارضة السياسية بأنها laquo;يجب أن ألا تحمل سلاحاً وألا يكون لها جيشraquo; (حديثه إلى صحيفة laquo;تشرينraquo;). ولعلّه يعتمد للنظام laquo;تعريفاًraquo; بأنه الجهة المخوّلة قتل هذه المعارضة. وعلى هذا الأساس هذا القتل يريد أن يبني حلاً laquo;سورياًraquo; و laquo;سياسياًraquo; أولويته laquo;محاربة الإرهابraquo;. وفيما يسخر من فشل الأميركيين في إيجاد laquo;معارضة موحّدةraquo; أوعزت أجهزته إلى laquo;المعارضة المدجّنةraquo;، وبعضها مشارك في حكومته، كي توحد صفوفها لتكون المحاور لهذه الحكومة في laquo;جنيف 2raquo;! لماذا لا يحاورها في دمشق فهذا يضمن له التوصل إلى laquo;الحل السريعraquo; الذي يتوخّاه.

لا يجهل النظام أن تسليم السلاح الكيماوي لتدميره هو ذروة الإخفاقات التي لم يستطع التحكّم بها، لكنه اعتبره وصفة وترخيصاً للبقاء. كانت مشاعر أحد المسؤولين العرب تأرجحت بين الأسى والهزل الأسود حين شاهد أقدام المفتشين الدوليين فوق ركام laquo;سلاح التوازن الاستراتيجي السوري مع إسرائيلraquo; فكتب هذه التغريدة: laquo;دوسوني بس خلّونيraquo;... يسعى إلى استثمار شهادات حسن السلوك والتعاون مع المفتشين، بل حتى الاعتراف بـ laquo;فضلهraquo; (تصريحات جون كيري في اندونيسيا) ليكون laquo;جنيف 2raquo; والحل السياسي تعويضاً عن سلاحه المدمّر وضماناً لبقائه وraquo;إعادة انتخابهraquo; لا مجرد تمديد لاستمراره بقوة الأمر الواقع.

مرّة أخرى يعود الأسد إلى مغازلة الأمل بأن يتوصل الروس إلى إقناع الأميركيين بأن الحل السياسي الذي يطرحه هو الوحيد الممكن والعملي. صحيح أنه يحاول إعادة تأهيل نفسه لافتاً إلى أوضاع المعارضة المنتقلة laquo;من تفكك إلى تفكك إلى انفراطraquo;، لكنه يتطلّع إلى أن ينتهي المطاف بـ laquo;التقارب الأميركي - الروسيraquo; إلى إعادة تأهيل نظامه ليعود حاكماً ومسيطراً. لا شيء مستبعداً ولا مستغرباً في غمرة تردد إدارة أوباما وتقلّباتها، خصوصاً إذا كانت الأولوية عندها لاتفاق مع ايران، وإيران مثل روسيا لا ترى ضماناً لمصالحها في سورية إلا بوجود نظام الأسد ولو مع بعض التنقيح.