عبد العلي حامي الدين

مع كتابة هذه السطور يكون المغرب قد أسدل الستار على التعديل الحكومي الذي طال انتظاره، بعد دخول حزب التجمع الوطني للأحرار إلى الحكومة الجديدة..
مسلسل من التشويق رافق رحلة البحث عن ائتلاف حكومي جديد بعد انسحاب حزب الاستقلال من الحكومة لأسباب غامضة، وسجل المراقبون درجة عالية من المتابعة الدقيقة لجميع المعلومات التي كانت ترشح عن المفاوضات الماراطونية التي قادها رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران مع رئيس حزب الأحرار صلاح الدين مزوار..
في السياق المغربي يقود حزب العدالة والتنمية حكومة ائتلافية بعدما نجح المغرب في تجنب السيناريوهات العنيفة التي سقطت فيها دول أخرى، ودشن مسارا هادئا تحت شعار lsquo;الإصلاح في ظل الاستقرارrsquo; بعد انتخابات تشريعية غير مطعون في نزاهتها، وبعد دستور جديد تضمن العديد من الإصلاحات واحتفظ للمؤسسة الملكية بموقع السمو في النظام السياسي المغربي.


بعض الكتابات حاولت استلهام النموذج المصري في أعقاب الإطاحة بحكم الرئيس مرسي، في التعاطي مع الحالة المغربية متجاهلة بذلك خصوصية النظام السياسي المغربي التي تجعل رأس النظام السياسي ليس محل منافسة انتخابية، وأن الدستور المغربي احتفظ لرئيس الدولة بصلاحيات واسعة وجعله ضامن دوام الدولة واستمرارها، وبالتالي فإن الحكومات تتعاقب على تدبير الشأن العام وتتغير بناء على ما تسفر عنه صناديق الاقتراع، أما رئيس الدولة فهو الملك الذي لاينتمي لأي حزب سياسي وهو من الناحية الدستورية الممثل الأسمى للدولة ، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها، يسهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، وعلى احترام التعهدات الدولية للمملكة. وبهذا المعنى فإن الدولة لا يمكن أن تأخذ صبغة حزبية يمكن أن تهدد المسار الديموقراطي في البلاد أو على السير العادي للمؤسسات أو على المس بالحقوق والحريات.


إن النظام الملكي الذي يعتبر من ثوابت المملكة في المغرب، يعتبر ضمانة أساسية لحماية المسار الديموقراطي، ويتدخل لتنبيه الحكومات المتعاقبة إلى بعض الاختلالات التي يمكن أن تقع في أدائها التدبيري، لكنه بهذه الوظائف السامية لا يمكن أن يكون مع هذا الطرف أو ذاك..


العديد من المؤشرات من هنا وهناك تشير إلى أن عملية المفاوضات التي جرت بين حزب العدالة والتنمية وباقي الفاعلين كانت شاقة ومتعبة تعكس حقيقة واحدة وهي أن المغرب يمر بمرحلة سياسية صعبة تستبطن صراعا خفيا بين إرادتين إرادة الإصلاح والتغيير التي كسبت مساحات جديدة بعد الرجة الاحتجاجية لدينامية العشرين من فبراير وإرادة الجمود والمحافظة التي تحاول استرجاع مواقعها بعد هدوء العاصفة، وقد أبدى حزب العدالة والتنمية مرونة كبيرة وقدم تنازلات معتبرة للحفاظ على التجربة وتحصينها من الانزلاق إلى متاهات المجهول..
ودون الدخول في التفاصيل، فإن الطبقة السياسية في المغرب بكل تعبيراتها تتحمل مسؤولية تاريخية في مرحلة سياسية صعبة ..هذه الصعوبة تكمن في التعقيدات المرتبطة بتدبير ظرفية انتقالية من نظام سياسي ودستوري يتميز بثقل الكثير من الموروثات المحافظة التي تتعارض مع القيم الديموقراطية، إلى نظام أكثر انفتاحا وأكثر ديموقراطية، وهو ما يتطلب الكثير من التكيف من طرف مختلف الفاعلين السياسيين (الملك، الأحزاب السياسية، رجال الأعمال، الجهاز البيروقراطي، المجتمع المدني.(..


كما تكمن صعوبتها أيضا في الظرفية الاقتصادية و الاجتماعية المتأزمة العاجزة عن تلبية انتظارات المواطنين التي تخفي وراءها عقودا من الخصاص الاجتماعي والاقتصادي.
مختلف الفئات الاجتماعية عانت كثيرا من الانسداد السياسي ومن التوزيع غير العادل للثروات، وحينما انطلقت شرارة الربيع العربي، انفجرت معها المطالب الاجتماعية والاقتصادية بطريقة تتجاوز قدرة الحكومات الجديدة وتصطدم بندرة الموارد، وبمخلفات النماذج التنموية التي تم إرساؤها في زمن الانغلاق السياسي.
الطبقة السياسية مدعوة للتحلي بالكثير من النضج ومن العقلانية لاستيعاب حساسية المرحلة وخطورتها..
طبعا، لانحتاج للتذكير بالسياقات التي أفرزت المرحلة الراهنة، وليس لدينا الكثير من الوقت لتبذير الزمن السياسي في المناورات والدسائس.. إن قضاء أزيد من شهرين قبل الإعلان عن الأغلبية البرلمانية للجديدة لا يخفي وراءه صعوبة تدبير المفاوضات بين الأحزاب السياسية فقط، وهذا أمر طبيعي، ولكنه يعكس حجم التعقيدات التي تخترق المشهد السياسي المغربي وصعوبة الوصول إلى توافقات تنتزع رضا الجميع..
وبالنظر للظرفية السياسية والاقتصادية التي تمر منها البلاد، فليس أمام المغاربة سوى خيار واحد هو ضرورة العمل من أجل وضع المغرب على سكة الإصلاحات الضرورية وكسب معركة التحول الديموقراطي الحقيقي بالعمل الجاد على التنزيل الديموقراطي لمقتضيات الدستور الجديد، وإبداع الحلول المبدعة للنهوض بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية والحد من أسباب الفساد والإفلات من المحاسبة والمراقبةhellip;
إن المغرب الذي استطاع أن يجتاز بنجاح استحقاقات الربيع الديمقراطي باعتباره يمثل تجربة فريدة في المنطقة تعيش تحولا في ظل الاستقرار، ليس أمامه إلا مواصلة الدينامية الإصلاحية، باعتبارها الضمانة الوحيدة لاستدامة هذا الاستقرار وتعزيزه بصفة نهائية لا رجعة فيها ..


لقد كشفت التحولات الجارية في المنطقة العربية ، أن البناء الديموقراطي هو مسلسل من التغييرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية والثقافية التي تأخذ طابعا متواصلا في الزمان سواء في الدول التي عرفت مسارا ثوريا مثل تونس ومصر وليبيا، أو في الدول التي عرفت مسارا إصلاحيا هادئا مثل المغرب، ذلك أن الخبرة العملية أثبتت بما لا يدع مجالا للشك بأن العملية الديموقراطية عملية تراكمية مرتبطة بالممارسة وبنضج الفاعلين واستعدادهم لتقديم التنازلات لبعضهم البعض، أكثر منها وصفة نظرية جاهزة. إن الارتدادات الحاصلة اليوم، كشفت عن فقر كبير في الثقافة الديموقراطية لدى العديد من النخب السياسية التي فشلت في ساحة التنافس السياسي مع القوى السياسية الجديدة، كما كشفت على حاجة هذه التجربة إلى مؤسسة قوية تكون مرجعا للتحكيم عندما يحتد الخلاف بين الفرقاء..
ولذلك، واستلهاما من التجربة المغربية، فإن جزءا من الحل بالنسبة للدول التي تعرف اضطرابات حقيقية، يوجد في تطوير أنظمة دستورية تجعل رأس النظام السياسي يتمتع بوظائف تحكيمية وسيادية ورمزية، يكون فوق الصراعات اليومية للأحزاب السياسية.


إن النظام البرلماني أو الشبه برلماني الذي يتمتع فيه رؤساء الدول سواء في الأنظمة الجمهورية أو الأنظمة الملكية باختصاصات الإشراف العام والتوجيه الاستراتيجي والتمثيل السيادي للدولة والحرص على احترام قواعد العملية السياسية، تجعل رأس النظام السياسي في منأى عن أي مساءلة سياسية مباشرة، بينما تتركز عملية المساءلة والمحاسبة في الحكومات التي تسهر على التدبير اليومي للسياسات العمومية.
بحيث يتحمل الوزراء المسؤولية السياسية أمام البرلمان، وبذلك يكون رأس النظام، في منأى عن تحريك المسؤولية المرتبطة بامتلاكه للسلطة، مما يساهم في تعزيز الاستقرار السياسي والاحتراز من الثورات والاضطرابات.
ربما يكون هذا هو سر صمود التجربة الديموقراطية المغربية وسط نظام إقليمي مضطرب..