رضوان السيد

قال لي مثقف عربي كبير إنه ما عاد يحب رؤية التلفزيون خشية أن يخرج عليه الأسد منتشيا بحربه على laquo;الإرهابraquo;، ومتغنجا على الشعب السوري المقهور والمشرد والمقتول هل ينعم عليه بالترشح لرئاسته في العام المقبل، أم يضن عليه بذلك؟! وهذا الضجر والغضب لدى الشرفاء هؤلاء يتخذ وجها آخر عندما ينقلب إلى حملة على laquo;العربraquo; بسبب ترددهم وتخاذلهم في قتال الأسد إلى جانب الشعب السوري، وبسبب ضآلة تأثيرهم في السياسات الدولية والأميركية والروسية، تجاه الثورة السورية، والقضية الفلسطينية، والهجمة الإيرانية عليهم في كل مكان!

إن الواقع أن العرب ما عادوا مترددين ولا متخاذلين. إنما لننظر من هم هؤلاء العرب الذين نتحدث عنهم! في الأزمات الكبرى منذ موت جمال عبد الناصر، فإن الذين كانوا يجتمعون لمواجهة المشكلات هم السعوديون والمصريون والعراقيون والسوريون. ويضاف إليهم أحيانا المغاربة والجزائريون. ثم ضعُف جانب المصريين وغادروا بعد كامب ديفيد، وعندما عادوا في التسعينات بدوا طرفا متوسط القوة أو متوسط الضعف. ثم أخرج العراقيون أنفسهم بحروب صدام حسين المتوالية. وعندما أمكن ترميم الشأن العربي بعد أواسط التسعينات ما عاد هناك غير السعوديين والسوريين؛ في حين التحق الآخرون بأحد الطرفين: بعض الخليجيين والمغاربة بالسعودية والجزائر بسوريا. ثم مات حافظ الأسد وغزا الأميركيون العراق وأدخلوا إليه الإيرانيين إضافة لوجودهم في سوريا ولبنان، فما عاد بشار الأسد طرفا عربيا يمكن الاعتماد عليه، وصارت السعودية وحيدة بالمشرق تستعين بالخليجيين الآخرين تارة، وبالرئيس مبارك تارة أخرى. أما بشار الأسد العامل من ضمن المسار الإيراني فقد صار دوره إلقاء laquo;محاضراتraquo; في مؤتمرات القمة بماذا يكون على العرب أن يفعلوا، ولماذا هم مخطئون إلى هذا الحد؛ في مشابهات للقذافي، لكن القذافي ظل في أكثر الحالات أظرف!

في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين إذن كان السعوديون والخليجيون الآخرون معنيين بأربع قضايا خطيرة تتفاقم كلها مرة واحدة: laquo;الإرهاب الإسلاميraquo; الذي صعد نجمه وخطره على الدول والمجتمعات بعد نجاحه في الهجوم على الولايات المتحدة، والتشنج الأميركي الذي يتهم السعودية والخليجيين كما يتهم laquo;القاعدةraquo; وأسامة بن لادن، وصعود اليمين الإسرائيلي وفي الوقت نفسه اتجاه الفلسطينيين إلى الانقسام، والتسرب الإيراني من خلال الميليشيات الشيعية ونظام الأسد والاستقطاب الفلسطيني إلى قلب المنطقة العربية. وما كان الأمر سهلا على الإطلاق، فالخليجيون يريد أكثرهم البقاء على الحياد وعدم الدخول في التحديات، والرئيس مبارك ما استطاع حتى منع حماس من الاستيلاء على حدود مصر مع فلسطين، وضاع العراق بين عدة إرهابات. وكان على السعوديين أن يقبلوا بالشريك الأَوحد الباقي في المنطقة: بشار الأسد! باعتبار أن الأردن ينبغي صونه من كل تلك الأزمات، ولبنان أكثر هشاشة من أي وقت مضى.

بيد أن بشار الأسد وخلال وقت قصير أظهر أنه تحول هو نفسه إلى مشكلة، وإن تظاهر الجميع بأن laquo;سوريا الأسدraquo; شريك لا يمكن الاستغناء عنه. سمعت بين عامي 2007 و2009 كلاما متطابقا بشأن الأسد من السعوديين والأتراك والمصريين والأردنيين ثم من المالكي وأهل السلطة الجديدة بالعراق. قال هؤلاء جميعا إن الأسد laquo;صاحب مبادرة في الخداعraquo;. فهو الذي يبادر إلى نثر الوعود قبل أن يُسأل، وهو الذي يبادر إلى نقضها علنا. فهو يعد سرا لكنه ينقض ذلك علنا. ولذلك كثرت لقاءاته مع السعوديين بشأن العراق ولبنان والفلسطينيين والإرهاب وإيران، كما كثرت خصوماته معهم؛ منذ بدء وراثته لوالده عام 2000 وحتى نشوب الثورة عليه عام 2011. وخلال ذلك الوقت كان همّ السعوديين لا أن يساعد الأسد في الاستقرار أو في لم الصفوف العربية بحكم الموقع الاستراتيجي لسوريا؛ بل كان الهم اتقاء شره، وألا يعطل المبادرات وحتى محاولات التفاهم مع الإيرانيين. ومن الطبيعي أن يبدو لهم في أواخر عام 2010، وبعد الاغتيالات والحروب ووجوه المكائد التي أثارها الأسد وأجهزته، أن الأمر كله كان عبثا في عبث، وأنه كان يعمل كل الوقت تحت السقف الإيراني، بل وقد كاد يفسد العلاقات التركية - الإيرانية رغم أن الأتراك استأذنوا إيران مع بدء تواصلهم مع الأسد عام 2004!

خلال فترة السنوات العشر الأولى من القرن الحادي والعشرين تكاثفت التحديات إذن، ووقفت السعودية شبه وحيدة في مواجهة laquo;القاعدةraquo;، وفي مواجهة التدخلات الإيرانية. وبخلاف الانطباع الذي ساد في الشهور الأولى للثورات العربية (ولعله كان ناجما عن الموقف من شخص الرئيس مبارك ومصائره)، بأن السعوديين كانت لهم هواجس بشأنها؛ فإن الحركة الشعبية بسوريا على وجه الخصوص كانت مريحة للسعوديين ولسائر العرب، بعد أن بدا الأسد عضوا كاملا في المحور الإيراني المسيطر على العراق وسوريا ولبنان، وأنه يتاجر معهم بالإرهاب. وكان الطريف أن الإيرانيين والروس والإسرائيليين وقفوا منذ اللحظة الأولى مع الأسد ضد شعبه. وقد انصرف هؤلاء جميعا إلى اتهام الأميركيين بإثارة الثورة على الأسد بعد أن كانوا قد نظموا هدنة معه في أواخر عام 2009. بيد أن الثورات العربية التي دفعت إيران لممارسة العنف عليها في مناطق نفوذها بحيث تحولت تلك الثورات إلى معاداة إيران ثم معاداة الشيعة، أطلقت أيضا موجة جديدة من عنف laquo;القاعدةraquo; والتنظيمات العنيفة الأخرى في سائر أنحاء المنطقة ووادي النيل والبحر الأحمر والمحيط الهندي. وقد أفاد نظام الأسد من عودة العنف باسم الإسلام للتصاعد. لكن الجهة الأكثر إفادة هي طهران بالذات. فهي مخترقة لكل الحركات السنية العنيفة وتستخدمها بطريقة أو بأخرى منذ مقتل الزرقاوي ثم أسامة بن لادن. وهي تقدم نفسها الآن باعتبارها الجهة التي تستطيع حماية المصالح الغربية وإسرائيل من التطرف السني. والشاهد على ذلك دفع إيران حزب الله لمقاتلة laquo;التكفيريينraquo; في سوريا ولبنان! إيران مسؤولة عن الموجة الجديدة للعنف الأصولي في بلاد الشام والعراق واليمن.

إن لدينا هذه المواجهة المزدوجة الآن: مع إيران ومع laquo;القاعدةraquo;. وقد بدأ البعض يتحدثون عن laquo;الأَولوياتraquo;؛ إذ يضع الأسد نفسه في خدمة مكافحة الإرهاب، ولا يبتعد عنه الإيرانيون كثيرا. والواقع أن الإرهابين متوازيان وأحيانا متداخلان. وإيران تفيد من laquo;القاعدةraquo; ومتفرعاتها أكثر مما تفيد laquo;القاعدةraquo; من إيران. ولذا فإنه إذا سقط النظام السوري الذي تقاتل معه إيران الآن؛ فإن إيران ستتضرر وقد تفعل شيئا أكبر في لبنان. بمعنى أن مصلحة إيران ومصلحة المتطرفين معا تتمثل في استمرار الحرب في سوريا، لكي ترى ما يمكن الحصول عليه من الغرب بشأن النووي وبشأن مناطق النفوذ. ولذا يكون المطلوب، والخليجيون الآن يقودون العرب في مواجهة إيران، أن تستمر هذه المواجهة بالدرجة الأولى في سوريا وفي لبنان وفي فلسطين، وفي كل مكان يرفع فيه الإيرانيون رايات الانقسام بواسطة الميليشيات الموالية لهم. أما الانكفاء الذي يقول به البعض خارج الخليج بحجة أن المتطرفين أخطر؛ فإنه قد يؤدي إلى دمار البلدان الثلاثة أو تشرذمها بسبب الضغوط الشديدة، فضلا عما ستتعرض له دول الخليج ذاتها من تحديات سواء لجهة الاستقرار، أو لجهة العلاقات بالأطراف الغربية.

خلال أكثر من عشر سنوات اتخذت السعودية من مكافحة الإرهاب أَولوية في الداخل والخارج. وقد أمكن كسر شوكة laquo;القاعدةraquo; بالتعاون مع الجهات الدولية. بيد أن الجهات الدولية ذاتها ولأسباب مجهولة سمحت لإيران بالاستيلاء على بلاد الشام والعراق. فلنُخرج إيران من العالم العربي، لتخرج laquo;القاعدةraquo; أيضا.