محمد الصياد

سافرت إلى مصر للمشاركة في الاجتماع السنوي الذي تعقده منظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول ldquo;أوابكrdquo; تحضيراً وتنسيقاً لمؤتمر الأطراف التاسع عشر (19 (Conference of Parties الذي سيعقد هذا العام في العاصمة البولندية وارسو خلال الفترة من 11-22 نوفمبر/ تشرين الثاني ،2013 وهو الاجتماع الذي تعقده الدول الأعضاء في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ UNFCCC في نهاية كل عام منذ إنشاء هذه الاتفاقية في عام ،1992 وعدت منها قبل يومين من احتفالات الذكرى الأربعين لنصر أكتوبر ،1973 وكما هي عادتي منذ زيارتي الأولى لمصر في عام ،1974 فإن زيارة مصر لا تكتمل بالنسبة إليّ إلا بارتياد وسط البلد والقاهرة القديمة خصوصاً مناطق الجمالية وخان الخليلي والتنزه على كورنيش النيل . وهذا ما قمت به، فالتجوال وسط الأمكنة والأزقة التي يفوح منها عبق التاريخ هي أحد أفضل الرياضات الذهنية البلسمية المريحة للنفس البشرية . وقد وجدتها كما هو عهدي بها دائماً، ضاجّة بالحركة والحيوية والنشاط . ولم أجد ما يعكر صفوها من مُضجِرات إعلام الإثارة والتهويل .

القاهرة اليوم مدفوعة دفعاً على غير رغبتها لتغيير إيقاع حياتها اليومية . فهي مجبرة على تعليق ديناميتها عند الساعة الثانية عشرة ليلاً، حيث تبدأ ساعات حظر التجوال التي تستمر حتى الساعة السابعة صباحا . هي التي لم تعتد أبداً على هذا ldquo;الريجيم القاسيrdquo;، ولكنها الضرورة وأحكامها التي لا تُرد . والضرورة هنا تتصل بأمن وسلامة الوطن ومقدراته وشعبه . فالمتربصون بأمن مصر القومي كثيرون ليس الإرهاب المنظم سوى أحدهم . كانوا يمنّون النفس قبل أن يرسموا ويخططوا لأن تلقى مصر وجيشها ذات المصير الذي لقيه قبلها العراق، والبقية التي صارت صفحتها مقروءة لكل ذي عقل سديد .

ومن طرافة وإدهاش أبناء النيل، قدرتهم الفائقة على التكيّف مع أعقد وأصعب الظروف، بما في ذلك تهديدات الإرهاب الإجرامي وساعات حظر التجوال، حيث لم يتنازل المصريون عن مواصلة إقامة مراسم وحفلات الزواج بالزخم وبالوتيرة نفسيهما، مع فارق إقامتها في ساعات مبكرة من المساء استباقاً لحلول موعد حظر التجول . كما تواصل مقاهي حي سيدنا الحسين واسوقه التاريخية وروادها نشاطهم بالروح المصرية المتدفقة نفسها .

تحاول مصر بكل ما أوتيت من عزيمة استعادة نظام حياتها المعتاد الذي أفقدتها إياه فوضى الاثني عشر شهراً العارمة من حكم قوى الإسلام السياسي وفي مقدمتها ldquo;الإخوانrdquo;، في ذات الوقت الذي تحاول هذه القوى من جانبها معاودة كرة السيطرة عليها وتوجيهها صوب أحد نماذج الحكم المناوئة للتقدم والحداثة التي أثبتت التجربة فشلها في الأمكنة التي ابتليت بها نتيجة لصدامها الحتمي مع المجتمعات التي تسوسها ومع الحياة المعاصرة .

في غفلة من الزمن، ليست نادرة الحدوث، وجد الشعب المصري نفسه وقد لبس ثوباً ضيقاً غير مريح بالمطلق، فقرر نزعه لإراحة نفسه من ضيق هذا الثوب المزعج الذي أساء خائطه تفصيله . فكان أن ثارت ثائرة هذا الخيّاط الفاشل وصمم على إجبار الناس على لبس ثوبه من دون الاعتبار لعدم ملاءمته لهم .

ولقد قلناها فور عودتنا من مصر بعد بضعة أشهر من تسلم ldquo;الإخوانrdquo; زمام أمورها، إن ldquo;مصر تَخُب على الإخوانrdquo;، أي أن ثوبها طويل بما يتسبب في ldquo;كعبلةrdquo; لابسه . ونحن في الخليج نقول ldquo;الثوب الطويل يتعrdquo;، أي يعرقل أو ldquo;يكعبلrdquo; لابسه بالمصرية العامية . فمصر في نهاية المطاف ليست أفغانستان ولا باكستان .

هذا بالضبط ما حدث مع ldquo;الإخوانrdquo; وحلفائهم في مصر . فهم يشيعون خبثاً أن الأصوات التي أُعطيت لرئيسهم المخلوع إنما هي شيك على بياض، أي تفويض لهم مفتوح لعمل ما يحلو لهم بالدولة والشعب في مصر . وهذا افتراء ينم عن سوء نية مبيتة لطريقة فهم وتعامل الإسلام السياسي، ومنهم ldquo;الإخوانrdquo; المسلمون، مع الديمقراطية وآليات عملها .

على أن الذي لاشك فيه أن القوات المسلحة المصرية تواجه اليوم تحديات بالغة الخطورة على الأمن القومي المصري . ولا تقتصر هذه التحديات على مواجهة إرهاب الجماعات الإسلامية المتسللة عبر الحدود الليبية وغير الليبية إلى داخل الأراضي المصرية وحسب، وإنما تشمل أيضاً مواجهة البؤر الإجرامية التي انتشرت في بعض المحافظات المصرية (ليس مركز العياط بمحافظة الجيزة سوى أحد نماذجها)، مستفيدة من غول الفساد والتهميش الناجمين عن عقود من الإدارة الكلية الفاشلة .