توفيق المديني

مع سقوط نظام القذافي، وبروز المظاهر المسلحة التي تقودها الجماعات الإسلامية المتشددة، عادت النزعات القبلية إلى ليبيا بصورة مقيتة أكثر من السابق، وعادت النزعات الانفصالية، لاسيَّما في الشرق الليبي الذي يتباهى سكانه بأنهم يمتلكون الثروة النفطية المنهوبة من قبل العاصمة طرابلس بوصفها مركز السلطة، وكذلك في منطقة الزنتان، ومثل هذه الظواهر الرجعية تشكل ردة حقيقية على الثورة، وتتنافى مع روح الإسلام وبناء الدولة الوطنية الحديثة، أي دولة المواطنين المتساوين في الحقوق والواجبات، لا دولة laquo;المحاصصةraquo; القبلية في الثروة، والوظائف والخدمات الحكومية.

ورغم إجراء أول انتخابات ديمقراطية وشفافة في ليبيا في أوائل شهر يوليو 2012، التي فاز فيها الليبراليون على حساب الإسلاميين، فإن الدعوة إلى تشكيل حكومة وطنية في ليبيا مشهود لها بالديمقراطية والنزاهة لإدارة البلاد ما بعد الثورة، تكون مهمتها الأساس العودة بالبلاد إلى الحياة الدستورية والمؤسساتية عن طريق دعوة الجمعية الوطنية تأسيسية بإقرار دستور ديمقراطي عصري، وإحداث التعديلات المناسبة حياله، وعرضه على الشعب الليبي في استفتاء عام، باءت كلها بالفشل. فلا تزال ليبيا تعيش في حالة اللادولة، في ظل انتشار فوضى السلاح الذي تمتلكه الجماعات الإسلامية المرتبطة بتنظيم القاعدة.

وتبدو حكومة ليبيا بعد الثورة في حال تخبط، ويقول المسؤولون الغربيون إن من غير الواضح مَنْ يتحمل مسؤولية الأمن، إذا وُجِد من يتحملها أصلاً. وتحضر القوات الليبية حضوراً محدوداً في المراكز السكنية الرئيسية، حيث تسيطر جماعات قبلية على أنحاء واسعة من الصحراء. وانتشار quot;القاعدةquot; والمنظمات المتفرعة عنها في مناطق لا تخضع لأي حكومة في الصحراء الكبرى - وتزايد قوتها في الصراع في سورية - يشيران إلى تفاوت بين التهديد القائم وبين تقليص الإدارة الأمريكية دورها في مكافحة الإرهاب.

لقد كانت لسقوط نظام القذافي في ليبيا تداعيات إقليمية كبيرة. فهناك إجماع داخل الدول الغربية والمغاربية، ودول الساحل الإفريقي، من مخاطر انتشار الأسلحة بصورة كبيرة في ليبيا، وانتقالها أيضاً عبر الحدود إلى الدول المجاورة (الجزائر، مالي، النيجر، وموريتانيا) وهي مناطق الصحراء الكبرى، التي ينشط فيها تنظيم quot;القاعدة في بلاد المغرب الإسلاميquot;، إضافة إلى المتمردين الطوارق.

ومنذ الإطاحة بنظام القذافي، ظلت تونس ومصر تكافحان لضبط حدودهما مع ليبيا من أجل وقف تدفق الأسلحة. وكانت تونس أعلنت في شهر شباط 2012 تفكيك تنظيم إرهابي تدرب في ليبيا، وسعى إلى إقامة إمارة إسلامية في تونس. وما زاد مخاوف الدول الغربية من استفادة تنظيم القاعدة من وفرة السلاح المسروق من المخازن الليبية، هو مقتل السفير الأمريكي في قنصلية بنغازي في 11 سبتمبر 2012، والهجوم الذي شنه المتمردون الطوارق (quot;الحركة الوطنية لتحرير أزوادquot;، quot;حركة أنصار الدينquot; الإسلامية المسلحة من الطوارق، التي أسسها إياد آغ غالي أحد القادة السابقين لحركة التمرد الطوارق في التسعينات)، ضد القوات المسلحة المالية في منطقة كيدال وميناكا، في 17 من كانون الثاني 2012 للمطالبة بحق تقرير مصير المنطقة الشمالية من مالي، المتاخمة لموريتانيا والجزائر والنيجر وبوركينا فاسو. وقد حقق الطوارق نجاحاً عسكريا لافتاً من خلال سيطرتهم على شمال مالي، أي ما يعادل 850 كلم مربع.

وكانت quot;حركة أنصار الدين quot; تطالب بفرض الشريعة في مالي، بعد أن سيطرت على ثلثي التراب المالي، ولولا التدخل العسكري الفرنسي في بداية سنة 2013، لما سقطت مالي لقمة سائغة في أيدي تنظيم quot;القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي quot;. وكانت حكومة مالي اتهمت تنظيم quot;القاعدة في المغرب الإسلاميquot; الذي يقيم قواعد في شمالي البلاد بشن هجمات على العديد من دول الساحل انطلاقاً من أراضيها.

فبعد استقرار مالي تظهر تقارير الاستخبارات الأمريكية والفرنسية أن المقاتلين من تنظيم quot;القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي quot;تمكنوا من اجتياز الحدود من مالي وإنشاء قاعدة جديدة لهم في جنوب غربي ليبيا. وتعتقد أمريكا بأن الزاوية الجنوبية الغربية من ليبيا تجذب حالياً المقاتلين الإسلاميين من جماعة quot;أنصار الدينquot; وتنظيم quot;القاعدة في بلدان المغرب الإسلاميquot; الذين فروا من مالي. وتختلط هاتان المجموعتان مع المجموعات المسلحة المحلية وبينها laquo;أنصار الشريعةraquo; التي تؤكد واشنطن إنها متورطة بالهجوم على القنصلية الأمريكية في بنغازي.

وكان تنظيم quot;القاعدةquot; اتخذ قراراً تاريخياً بعد وفاة مقتل زعيمه أسامة بن لادن تغيير تسمية التنظيم وتغيير مركزيته من أفغانستان إلى ليبيا، وتعد تونس همزة الوصل بين ليبيا والجزائر والصحراء في علاقة بالغاز والمصالح التجارية لتهريب للمخدرات والأسلحة والغذاء. ومنذ التدخل الأمريكي في أفغانستان تحول تنظيم quot;القاعدةquot; إلى منظمة مهيكلة عموديا وأصبح لكل مجموعة هيكلتها الخاصة وما يجمعها هو الأيدويولوجيا التكفيرية والجهادية والخط السياسي الموحد ومساعدة المصالح الأمريكية والعمل الجمعياتي عبر عدة جمعيات خيرية ودعوية. فتنظيم quot;أنصار الشريعةquot;، وهي إحدى التسميات الجديدة لتنظيم quot;القاعدةquot;، حيث وجدت quot;أنصار الشريعةquot; ببنغازي بقيادة محمد الزهاوي و quot;أنصار الشريعةquot; بدرنا بقيادة أبو سفيان بن قمو وهو من قدماء غونتنامو، وquot;أنصار الشريعةquot; باليمن، هي التسمية الجديدة للقاعدة في الجزيرة العربية تحت قيادة الشيخ أبو زهير عادل بن عبدالله وquot;أنصار الشريعة quot;بتونس تحت قيادة أبو عياض سيف الله بن حسين، ومصر تحت قيادة أحمد أشوش بحسب قوله. واتخذ تنظيم quot;القاعدة quot; جغرافيا تمركز جديد بعد الربيع العربي، وتحول من أفغانستان إلى ليبيا والصحراء المتاخمة لها وتم إنهاء مرحلة الجهاد الموحد الهرمي تحت قيادة بن لادن والعودة إلى تنظيمات 1990 المستقلة تنظيميا ويجمعها المنحى التكفيري والعمل الجمعياتي.

وتشير التقارير الأمنية الواردة من تونس، أن منطقة الزنتان الليبية، تحولت إلى معسكر تدريب للعديد من التوانسة، يتراوح العدد الإجمالي بين 4 أو 5 آلاف، حيث يعد زعيم تنظيم quot;أنصار الشريعةquot; أبو عياض هؤلاء الإرهابيين للقيام بهجوم كبير على جنوب تونس، واحتلاله، والقيام بعدة تفجيرات في العديد من المدن التونسية، واغتيال عدد كبير من السياسيين، ومهاجمة المؤسسات العامة. وكان وزير الداخلية التونسي السيد لطفي بن جدو صرح لإذاعة موزاييك يوم 25 سبتمبر الماضي، أن تونس كانت على حافة مخطط إرهابي خطير كان يعتزم تقسيم البلاد إلى ثلاث إمارات في الوسط والجنوب والشمال، مع التحضير لجملة من الاغتيالات والتفجيرات المتزامنة، لكن تم تجاوز هذا المخطط بفضل مجهودات عناصر الأمن والجيش الوطنيين على حد تعبيره.

وفي ظل تنامي ظاهرة الإرهاب، وغياب السيطرة الحكومية على معظم التراب الليبي، جاءت العملية الأميركية التي أسفرت عن اعتقال قيادي في تنظيم quot;القاعدةquot; في طرابلس، أواخر الأسبوع الماضي، لتضع الحكومة الليبية أمام مواجهة محتملة مع الجماعات الإسلامية المتشددة التي يحمّلونها مسؤولية ما حصل لنزيه الرقيعي المعروف بـ quot;أبو أنس الليبيquot;، المتهم من جانب الولايات المتحدة في قضية تفجير السفارتين الأمريكيتين في شرق إفريقيا العام 1998 ودوره في laquo;القاعدةraquo; داخل ليبيا وخارجها.

ويجمع المراقبون أن عملية اعتقال quot;أبو أنس الليبيquot; ستزيد في توتير الأجواء بين الحكومة الليبية والجماعات الإسلامية المرتبطة بتنظيم quot;القاعدةquot;، أو التي تتبنى أيديولوجيته التكفيرية. علما أنه منذ سقوط نظام معمر القذافي عام 2011، اقتصرت هجمات تنظيم quot;أنصار الشريعةquot; على الأهداف الغربية مثل قتل السفير الأمريكي كريس ستيفنز في بنغازي وتفجير السفارة الفرنسية في طرابلس، إضافة إلى سلسلة من الاغتيالات التي طاولت ضباطاً خدموا في ظل نظام القذافي. لكن هذه الهجمات لم تطل حكومة زيدان نفسها، وإن كان ذلك يمكن أن يتغيّر الآن. إذ أفادت رسالة منشورة على مواقع انترنت يستخدمها laquo;جهاديونraquo; بما في ذلك تنظيم laquo;أنصار الشريعةraquo;: quot;لم نقاتل القذافي لنستبدله بخائن أو عميل يسلّم أخوتنا إلى المشركين ويقف إلى جانبه.. هذه الحادثة المخزية ستكلّف الحكومة الليبية غالياًquot;.