مالك التريكي


هذه لحظة تاريخية مديدة عصية على الفهم. نص من الأحداث الجسام والانقلابات العاصفة يكاد يمتنع على القراءة. لهذا حق للباحث السياسي غسان سلامة أن يلحظ lsquo;ذاك التناقض النافر بين عمق التحولات الضاربة الآن بالعالم العربي والإسلامي وسطحية جل الفكر المتعلق بها، بل فئويته وحزبيتهrsquo;.


يذكرني هذا بإجابة ادوارد سعيد عندما سئل، أوائل التسعينيات في لندن، عن lsquo;ما بعد الحداثةrsquo; وموقعها في العالم العربي. قال ما معناه: ليس لنا في شأن ما بعد الحداثة فكر أصلا. ذلك أننا لا نزال نخوض معارك الحداثة، ولمّا نكسب ولو الحد الأدنى منها. فلا الحريات مضمونة. ولا الفكر عقلاني سديد ولا الحكم ديمقراطي رشيد.
أن لا يكون لنا في ما بعد الحداثة فكر، فذلك أمر مفهوم. أما أن لا يكون لنا فكر في شأن ما يرج الوطن العربي، منذ أواخر 2010، من زلازل مستمرة الارتدادات، فذلك مدعاة للحيرة والإحباط. إذ لم يعد من الممكن، إلا في ما ندر، التماس الرأي الحر والنظر المتجرد من أهواء التحيز. لم يعد من الممكن تقريبا الظفر بموقف غير قابل للتصنيف إما في خندق lsquo;معprime; أو خندق lsquo;ضدrsquo;. ثنائية مفرطة. بل lsquo;مانويةrsquo; مطلقة بين نور الأنا وديجور الآخر.
ولكن رغم ضياع البوصلة وسقوط الكثيرين في هاوية التضاد والتنافي وفي صبيانية عقيدة lsquo;المحصلة الصفريةrsquo; بين كاسب كلي وخاسر كلي، فإنه لا ينبغي للمثقف المستقل أن يتهيب من مواجهة سلطة lsquo;الفكر الأوحدrsquo; هذا ومن مقاطعة عملته الفئوية الرائجة. ولا ينبغي له الركون إلى أمان استرضاء جمهور الحشود المتلاعنة ولا جمهرة النخب المتلاسنة. بل إن عليه الاضطلاع بواجب جلاء الغشاوة الناجمة عن كثافة غبار معارك التحزب والتخندق والتمترس. كيف ذلك؟ بالتصدي لمهمة بسيطة ولكنها جليلة الخطر: توضيح المبادىء الأساسية التي عمّيت على الأفهام بسبب سطوة الكلام الغوغائي الغزير.
غير أن التصدي لهذه المهمة لا يتأتى إلا بشرط: ضرورة التماسك في المواقف. ولا يمكن للمواقف أن تكون متماسكة إلا إذا كانت مبنية على بسائط المنطق أولا (ومبادىء الأخلاق ثانيا). أي أنه لا يجدر بمن أيد الثورات الشعبية في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين أن يناهضها في سوريا، وأن يتخذ من وجود عناصر ظلامية في صفوف القوات المعارضة ذريعة لنصرة نظام موغل في ظلام القمع الشامل. ذلك أن lsquo;خطأين اثنين لا ينتجان صواباrsquo;، كما يقول المثل الانكليزي. وإذا لم يسعف المنطق، فلتسعف الذاكرة على الأقل: لقد ظلت ثورة الشعب السوري في الأشهر الأولى سلمية خالصة. ولكن لم يهبّ لنجدة الشعب الأعزل أحد عندما كان النظام يطلق النيران، بدأب يومي، على المظاهرات، ثم على جنائز ضحاياها!
أما في تونس ومصر، فلا يجدر بمن كان مستقل الرأي حقا أن يتخذ من فشل الأحزاب الإسلاموية في تجربة الحكم (ولو أنها تجربة لم تأخذ وقتها السياسي اللازم ولا حتى مداها الدستوري الأدنى) ذريعة لتأييد أطراف لا تتورع عن التحالف مع قوى النظام القديم (البائد السائد أبدا) التي كانت تمارس الخراب المؤسسي الممنهج في عهد بن علي ومبارك، والتي توارت عن الأنظار بعيد الثورة ثم ما أسرع ما عادت للبروز بوقاحة من يراهن على ضعف الذاكرة الشعبية وبشراسة من يطلب ثأرا كان يظن أنه لا يدرك.