سطام عبدالعزيز المقرن


أتباع الإسلام السياسي يرون في الحج محفلا لإعلان المواقف السياسية وقضايا المسلمين الاجتماعية، في حين أن هذه الفريضة تؤكد على العلاقة القلبية مع الله عز وجل التي تدفع الإنسان إلى فعل الخير

يتفق علماء المسلمين ورجال الدين على أن من أهم الأهداف العظيمة للحج، تهذيب النفس والسمو بالأخلاق، والمساواة بين الناس بمختلف ألوانهم وأعراقهم، وبمختلف عقائدهم ومذاهبهم، فالمسلمون يجتمعون من أقطار الأرض، فيتعرف بعضهم على بعض، ويألف بعضهم بعضا، وتذوب الفوارق بين الناس، فوارق الغنى والفقر، وفوارق الجنس واللون، وفوارق اللسان واللغة.
ولكن واقع الحال قائم على خلاف ما سبق مع الأسف، فالناس في الوقت الحاضر إما منقسمون إلى ثنائية تعسفية quot;مؤمن وكافرquot;، وإما يتحركون من موقع العداوة لبعضهم البعض حسب التبعية للمذهب الديني، إضافة إلى الأزمة الأخلاقية التي يعيشها المسلمون سواء مع بعضهم البعض أو في علاقتهم مع الآخرين.
فإذا قلنا إن من أهداف الحج تهذيب النفس والأخلاق، فما هو إذن سبب الأنانية المفرطة في نفوس البعض، التي تؤدي إلى التدافع والتزاحم وأذية الناس في الحج بمبرر أداء الفريضة ولو على حساب أذية الناس، فضلا عن الجفاف في العواطف، والعدوانية في التعامل، وعدم احترام الآخر، فيبقى الإنسان في مجال الأخلاق بلا رصيد عاطفي في عالم الروح والمشاعر والقلب.
وأما على مستوى إزالة الفوارق بين الناس، فالملايين من المسلمين تحج إلى بيت الله في كل عام، ومع ذلك لا يتصالحون ولا يتسامحون ولا يجتمعون على كلمة واحدة، وخير مثال على ذلك الاقتتال المذهبي والطائفي بين السنة والشيعة، إضافة إلى وجود نوع آخر من الصراع السياسي الذي يحاول البعض استغلاله في الحج، ويمثل صراع الأيديولوجيات المخالفة لأيديولوجية الإسلام السياسي، كالعلمانية والليبرالية وغيرها من المنظومات الفكرية والسياسية، التي تحاول أن تقف أمام مشروع الدولة الإسلامية حسب وجهة نظرهم، لذا يحاول هؤلاء رفع الشعارات السياسية والحزبية، واستغلال الحج في تحقيق مصالحهم وأهدافهم، الأمر الذي يؤدي إلى التنازع وإثارة الضغائن والأحقاد والفوضى بين الناس.
يتضح مما تقدم أن فريضة الحج تكون على ضربين: الحج في دائرة الفقه المذهبي والإسلام السياسي، والحج في عالم الحقيقة والواقع، والحاج في مفهوم الفقه هو أن يأتي بمناسك وشعائر الحج بكامل أجزائها وأركانها وشروطها من الإحرام والوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة، والسعي بين الصفا والمروة وغير ذلك، ولو كان في أثناء حجه يفكر بأنواع المحرمات، ويسب الناس بقلبه، ويكذب ويعادي الآخرين، فإن حجه صحيح؛ لأن الكذب والسب والغيبة وإيذاء الغير لم تذكر في قائمة المحظورات!.
لذا نجد الإنسان لا يهتم باكتساب الفضائل الأخلاقية من فريضة الحج، بل يكتفي بالصور والعناوين لها، وهي صورة وهمية للواقع، والأنكى من ذلك أننا نجد بعض علماء المذاهب يؤكدون على ضرورة الوحدة ونبذ الفرقة والاختلاف، ولكن على مستوى اللفظ والكلام، وأما على مستوى التطبيق والممارسة فلا يدع تهمة ولا مسبة إلا ونسبها إلى الآخر!.
يستشهد بعض رجال الدين من المذاهب المختلفة بأن رسول الله عليه الصلاة والسلام، كان يستغل فرص تجمع المسلمين، ليفقههم في دينهم، ويوصيهم بما ينفعهم في الدنيا والآخرة، وعلى هذا الأساس يحاول علماء كل فرقة وطائفة نشر عقيدته التي يؤمن بها بين الحجاج، ومواجهة المذاهب الأخرى من موقع الاتهام بالانحراف ومجانبة الحق، الأمر الذي يؤدي إلى إذكاء حدة الخلاف والتباغض بين المسلمين، ففي نظرهم أن المذاهب الأخرى في ضلال وعلى باطل وهم على حق، ويجدون في موسم الحج فرصة لهداية الناس إلى الدين القويم من وجهة نظرهم.
أما أتباع الإسلام السياسي فيرون في الحج محفلا لإعلان المواقف السياسية والقضايا الاجتماعية للمسلمين، والحاج في مكة يستشعر نفسه كعضو في جسد أكبر وفرد في أمة كبيرة لا تعرف التقسيمات السياسية ولا الحدود الجغرافية، ويعدّ الحج في نظرهم فرصة ليتحدث المسلمون عن مشاكلهم السياسية والاقتصادية والثقافية، كما أن موسم الحج فرصة لدعوة الناس إلى إقامة النظام الإسلامي، وتطبيق الشريعة، وبغض النظر عن إفرازات هذه الأعمال على روح الإنسان وتكامله المعنوي، فليس المهم التكامل الأخلاقي للإنسان بل إقامة الجمهورية الإسلامية أو الخلافة الإسلامية التي تطبق الشريعة، في حين أن فريضة الحج تؤكد على العلاقة القلبية مع الله عزّ وجل، التي تدفع الإنسان إلى حب الحق والخير والتحلي بالأخلاق الحميدة في سلوكه الواقعي.
إن الحج الحقيقي هو المقصود بقول الله تعالى {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب} البقرة197، كما جاء في قوله تعالى في الأضحية {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم} (والتقوى هنا معناها توزيع اللحوم على الفقراء والمساكين)، وجاء في خطبة حجة الوداع قوله عليه الصلاة والسلام: quot;أيها الناس: إن دماءكم وأموالكم، حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا..أيها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على عجمي إلا بالتقوى، ألا هل بلغت، اللهم فاشهدquot;.
ونلاحظ مما سبق أن التقوى هي الركيزة الأساسية في فريضة الحج، والتي تتمثل في كيفية الصعود بالإنسان إلى الكمال المعنوي وربطه بالله تعالى، ومع تحقق هذا المعنى في واقع الإنسان يتحول الفرد إلى إنسان صالح وفاعل في مجتمعه يتحلى بالأخلاق الحميدة في سلوكه الواقعي، فيتحرك بدوافع إلهية بدل الدوافع الأنانية والمصالح الشخصية، والدوافع الإلهية هي نفسها الدوافع الإنسانية المنطلقة من المشاعر والوجدان، فيعيش المؤمن على حب العدل وكره الظلم وحب الإنسانية الذي ينعكس في النهاية في تعامل الإنسان مع الغير في مجتمع يسوده المحبة والصدق والاحترام.