عبد الوهاب بدرخان

لم تشذ لكنة جائزة نوبل للسلام على عادتها، فهي تثير الجدل سلباً أو إيجاباً، بالأخص عندما تختار الجاني والضحية، القاتل والمقتول، لتقاسم المدائح على شجاعتهما. سبق أن منحت الجائزة إلى من سفكوا الدماء أو ساهموا في إشعال حروب ونزاعات مكافأة لهم على الذكاء والدهاء والحنكة، كونهم عملوا لاحقاً على إخماد تلك الحروب بحلول سياسية غير مكتملة الأركان ليبقى التنازع مفتوحاً ومنشطاً لشركات الأسلحة والإنتاج الحربي.

قبل أربعة أعوام منحت laquo;نوبل للسلامraquo; إلى أوباما، وسط دهشته شخصياً لأنه لم يكن قد أقدم بعد على أي عمل يمكن أن يصنع السلام، بل لم يكن واثقاً بأنه سيتوصل إلى حل أي نزاع شاركت الولايات المتحدة في تأجيجه بشكل مباشر أو غير مباشر. الأرجح أن اللجنة أرادت بهذا التكريم الاستباقي أن تثبته في أفكار وتعهدات أدلى بها خلال حملته الانتخابية الأولى صيف 2008. كانت النتيجة أنه صار ممتنعاً وممانعاً في اتخاذ أي قرار حربي، باستثناء موافقته على أي عملية تتعلق بتصفية إرهابيين (أسامة بن لادن)، لكنه صار أيضاً حاجزاً عن التقدم في أي مسعى سلمي، كما يُستدل من إخفاقه في إقناع إسرائيل بجدوى إنجاز سلام مع الفلسطينيين.

لا شك أن أوباما بصفته رئيساً أميركياً أعاد إدخال مصطلح السلام إلى الدبلوماسية الدولية، وهو أمر نادر في خطاب الإدارات الأميركية المتعاقبة التي كانت تستخدمه في حالات معينة ولمعالجة إشكالات محددة. لكن الإعلان عن انتهاء الحرب الباردة، مثلاً، لم يطوّر ليصبح إيذاناً بسلم عالمي، بل غلب عليه طابع إبراز الانتصارية الأميركية-الغربية وبزوغ عصر الدولة العظمي الوحيدة. ذاك أن السلام لا يقتصر على الخطاب، بل يتطلب سياسة جديدة تدار بعقلية مختلفة.

وفي الأعوام العربية الثلاثة أمكن التعرُّف إلى محدودية التوجه السلمي الأوبامي، بل إلى سطحية التخطيط الأميركي حتى عندما يتعلق الأمر بقرارات لا تستوجب مبادرات حربية. إذ إن التدخل هنا وهناك لترجيح صعود ممثلي تيار الإسلام السياسي إلى سدة السلطة، بواسطة قوانين انتخابية معلَّبة، لم يؤد عملياً إلى نتائج تعزز السلم الأهلي، لا في مصر ولا في تونس. كما أن الانسحاب من العراق، وهو خطوة كانت ضرورية ومطلوبة، لم يعن أبداً أن العراق حصل أخيراً على سلامه الداخلي بعدما تخلص من الاحتلال الأجنبي، الذي كان له الدور الأكبر في إشعال الصراعات الداخلية. ومن الصعب الاعتقاد بأن الانسحاب من أفغانستان في 2014 سيشيع الوئام الداخلي المؤمل به.

لا يعني السلام، إذاً، مجرد إنهاء حال شاذة وتجاهل تداعياتها على المرحلة التالية، وإلا فإن quot;السلامquot; سيكون عندئذ أشبه بوصفة لخلق ظروف تعيد استدعاء التدخل الخارجي، باعتباره العلاج الوحيد للتأزمات. صحيح أن المسؤولية الأولى تقع هنا على الأطراف المحلية، صاحبة الشأن، غير أن هذه عاشت طويلاً معوّلة على الدعم الخارجي، ورغم أن أحداً لم يفهم الاتفاق الأميركي-الروسي على معالجة الملف الكيماوي السوري بأنه quot;مبادرة سلامquot;، إلا أن مباشرة منظمة حظر الأسلحة الكيماوية عملها لتدمير الترسانة السورية استحقت إشادات نال منها الرئيس السوري نصيباً طيباً. وعندما أعلن أن quot;نوبل للسلامquot; لهذه السنة منحت لهذه المنظمة، ذهبت بعض التعليقات المتهكمة إلى القول، إنه لولا بعض الحياء لكانت quot;لجنة نوبلquot; جعلت الجائزة مناصفة بين منظمة حظر الكيماوي والنظام السوري الذي، لولا تعاونه وامتثاله، لما استطاع المفتشون أن يباشروا مهمة تبدو للوهلة الأولى ناجحة. قد تكون المنظمة استحقت الجائزة رغم أن سجلها لا يزال ضئيل الإنجازات، أما أن يقدم عملها في سوريا تحت اسم quot;السلامquot; فيما الحرب لا تزال تحصد الأرواح يومياً، فهذا يثير الكثير من الاستغراب والتساؤلات حول المفهوم المعتمد لـquot;السلامquot;.

لولا الاتفاق الأميركي-الروسي لما قفزت منظمة حظر الكيماوي إلى الواجهة، لكن هذا الاتفاق بني على تلاعب بالقانون الدولي وعبث بالمعايير الأخلاقية والإنسانية لأي قانون، عبر تجاهل الجريمة وتجهيل المجرم والاكتفاء بانتزاع أسلحته لأنه أحرج الدولتين الكبريين، غير المعنيتين بما تبقى لديه من أسلحة دمار شامل يستخدمها لقتل شعبه وتدمير العمران والاقتصاد. قد يكون لـquot;لجنة نوبلquot; الحق في الاشتغال بالسياسة عندما يلوح لها أن ثمة مساحة يتيحها التوافق الدولي غير أن التوافق الأميركي-الروسي كان ولا يزال مبنياً على استمرار التقاتل في سوريا، فأين quot;السلامquot; من توافق كهذا؟