طيب تيزيني

تتعاقب الأحداث الملتئمة تحت ظل الثورة السورية، لتدلل على أهمية مجموعة من العناوين، التي مرت في الحياة السياسية والثقافية، وتجد راهنيتها الآن في الحوار الذي أطلقته هذه الثورة.. ها هنا يبرز الحدث الذي ظهر في سوريا قبل بضع سنوات، واكتسب أهمية خاصة بين مثقفي وسياسيي سوريا، في فئات كثيرة منهم، بهذا نعني الحوار الذي انطلق بين هؤلاء، وكان للنظام الأمني فيه دور سلبي كابح. لقد وقف ذلك الأخير ضد الحوار المعني ومن موقع محدد هو التالي: إذا كانت جماعة المجتمع المدني قد ألحت على دور laquo;المدينةraquo; في المجتمع المدني، فإن ذلك يصب، في رأيه (أي النظام المذكور)، طالما أن المدن موجودة في سوريا منذ عهود بعيدة. ومن ثم، حين تصر جماعة المجتمع إياه على نفي وجوده الراهن حقاً في سوريا، فهم إما جهلة بالمعنى الحقيقي له، وإما يرغبون في تحويل الحديث عنه إلى مسوّغ للانطلاق إلى قضية أخرى هي التهمة بغياب الديمقراطية فيها.

كان ذلك كله قد قاد إلى وضع جماعة المجتمع المدني (هكذا أطلق النظام عليهم) في خانة المعارضة المعادية والتي تعمل لصالح دولة أجنبية أو أخرى، كان ذلك بمثابة تكثيف للهجوم على من انتقد من المعارضة غياب الديمقراطية وطالب بها. وهكذا جرى الانطلاق لدى النظام من فهم خاطئ وملفّق لقضية المجتمع المدني، للإعلان عن أنه هو وحده الذي يجسده ويمثله، بما في ذلك تجسيده للديمقراطية والحرية والكرامة والعدالة، وكل ما يتصل بالمجتمع الفاضل.
وقد ظل النظام مصراً على أنه هو الذي يمتلك الشرعية الشعبية والبرلمانية وغيرهما رغم ما يتجسد فيه من قانون الاستبداد الرباعي (في السلطة والثروة والإعلام والمرجعية المجتمعية). وحتى فيما اقترفه من مذابح غير مسبوقة، ويلاحظ أن ذلك أسهم في بروز مسألة المجتمع المدني، خصوصاً بالعلاقة مع ما أسهم فيه من إثارة لمجموعة من الظاهرات الخطرة، في سياق الحرب الدائرة إلى الآن.

ونضع يدنا على واحدة من أكثر المسائل إشكالية وحساسية واحتمالاً للصراعات، ولكن كذلك للالتباسات الخطرة بين الأطراف التي تتصدى لها، نعني مسألة العلاقة بين المجتمع المدني والدين عموماً وفي صيغته الإسلامية على نحو الخصوص، ففي هذا المقعد من المسألة المذكورة، تظهر قصدياً أو عفوياً مثل الأسئلة التالية: ألا يمكن من أجل الأخذ بمفهوم المجتمع المدني أن يفضي هذا إلى الإلحاد مفهوماً وسلوكاً؟ ألا نرتكب خطأ فاحشاً، إذا وضعنا مفهومين اثنين في علاقة بينهما، تُفصح عن تحدّرهما التاريخي والبنيوي المختلف؟ ذلك لأننا هنا نضع المجتمع المدني في علاقة مع الدين إذ إن الأول يتحدر كما يقال من الغرب، في حين أن الإسلام يتحدر من الشرق؟!

في ذلك الحقل من الجدال الأيديولوجي النظري والعملي تتم عملية خلط بين المجتمع المدني والدين عموماً. فالأول يتصل بحقل سوسيو مجتمعي وسياسي، أما الثاني (وهو الدين) فيتصل بالحقل الأيديولوجي الاعتقادي، إضافة إلى أن الأول منهما يعامل الناس جميعاً في مجتمع ماهو السوري على أساس المساواة في الحقوق والواجبات، في حين ضبط العلاقات بين الناس انطلاقاً من حق الحرية في التعبير والعمل وعلى ذلك، يبرز حقل الدين بوصفه قائماً على مفاهيم ما ورائية ومفاهيم أخرى، وأما حقل المجتمع المدني فيقوم على التعامل بمفاهيم تخضع للإقرار والنقد والتغيّر وفق المتغيرات في حياة البشر في الأصقاع المختلفة.