محمد السمّاك


في عام 1971 كانت باكستان لا تزال دولة واحدة بجزئيها الغربي (باكستان اليوم) والشرقي (بنغلادش)، رغم ان المسافة بينهما تبلغ 1600 كيلومتر، ورغم ان دولة quot;معاديةquot; لهما تقع بينهما هي الهند. كان باكستانيو الجزء الغربي (من الباشتون الاشداء ومن البنجابيين الأثرياء) ينظرون الى باكستانيي الجزء الشرقي من البنغاليين المزارعين الفقراء، نظرة دونية. ولذلك احتكرت باكستان الغربية كل المواقع في الدولة؛ السياسة والأمن والجيش والادارة. أبدت باكستان الشرقية التململ.. ثم الاعتراض.. فالاحتجاج، فالتظاهر، من دون جدوى. فقد كانت باكستان الغربية تقمعها بالقوة العسكرية. الى أن تحولت الحركة quot;السلميةquot; الى تمرد عام.
وفي محاولة لقمع التمرد، أرسلت باكستان الغربية قواتها العسكرية التي فتكت بالمتمردين. أدت تلك العمليات العسكرية الى مقتل حوالي المليون بنغالي من المسلمين والهندوس، والى تهجير عشرة ملايين منهم الى الهند والى دول الجوار الأخرى.


تلقي تلك المأساة في وقائعها ونتائجها الضوء على ما يحدث اليوم في سوريا، مع اختلاف المسرح واللاعبين والضحايا معاً.
فالحرب التي أدت الى انفصال باكستان الشرقية عن الغربية، كان يمكن تجنبها، وتجنب نتائجها المدمرة لو أن الرئيس الباكستاني في ذلك الوقت يحيى خان استجاب الى المطالب المحقة للباكستانيين البنغاليين في الحياة الكريمة وبحقهم في المشاركة في السلطة السياسية وفي القوات المسلحة. ولكن الشعور بغطرسة القوة وبعدم الثقة بولاء المواطن البنغالي، أدى الى الكارثة التي لا تزال باكستان وبنغلادش معاً تنوءان تحتها حتى اليوم.
وعلى خلاف ما هو الواقع اليوم في مواقع أطراف لعبة الأمم على المسرح السوري، كانت الولايات المتحدة متعاطفة ومتحالفة مع الرئيس الباكستاني. وكان الرئيس ريتشارد نيكسون معجب به بما يشبه إعجاب الرئيس الروسي بوتين اليوم بالرئيس بشار الأسد.. وكان نيكسون في الوقت ذاته قلقاً جداً من التعاون بين الهند والاتحاد السوفياتي (السابق). ولذلك كانت موسكو تدعم الحركة الوطنية البنغالية بعكس موقفها اليوم الداعم للنظام السوري.
ارتكبت القوات النظامية الباكستانية فظائع ضد المدنيين في دكا العاصمة وفي المدن البنغالية الأخرى، حتى أن القنصل الأميركي (السفير كان مقيماً في اسلام اباد بالجزء الغربي من باكستان في ذلك الوقت) بعث برسائل الى واشنطن حول تلك الفظائع منبهاً ومحذراً من خطورتها، ولكن رسائله لم تلقَ أي رد فعل، الأمر الذي اضطره في النهاية انسجاماً مع ضميره الانساني الى التخلي عن عمله والاستقالة (ولا نعرف نوع الرسائل التي يرسلها من دمشق السفير الروسي الى حكومته في موسكو).


وكما تفعل روسيا اليوم مع سوريا، هكذا تصرفت الولايات المتحدة مع باكستان. فبدلاً من الضغط على النظام في اسلام اباد لوقف المجازر، عمدت الى تزويده بالسلاح بما في ذلك الطائرات الحربية. وذهبت واشنطن الى أبعد من ذلك عندما أعطت الضوء الأخضر للصين بتحريك قواتها باتجاه الحدود الشمالية مع الهند. أي باتجاه المنطقة المتنازع عليها بين الدولتين، وذلك في محاولة للضغط على الهند لمنعها من التدخل في الحرب الداخلية الباكستانية. وكانت الولايات المتحدة تعرف أن ذلك قد يشكل حافزاً للكرملين لرد فعل معاكس، الا ان الكرملين الذي كان يؤيد الهند ضبط رد فعله ولم يستدرج الى الصراع.
وحدها الهند التي غرقت بالملايين من المهاجرين والتي ضاقت ذرعاً باستهداف الهندوس في باكستان الشرقية بالقتل والتنكيل، قامت بما تقوم به تركيا اليوم في الأزمة السورية من إيواء للمهجرين، ومن دعم للمتمردين على النظام، ومن كشف للجرائم الجماعية الواسعة التي كانت ترتكبها القوات الباكستانية ضد المواطنين.
كانت الولايات المتحدة برئاسة الرئيس ريتشارد نيكسون تعتبر أن ما يجري في الباكستان هو شأن داخلي لا يجوز التدخل فيه. وان الحكمة تقتضي الوقوف الى جانب الشرعية ممثلة بالرئيس خان. وهو تماماً ما يقوله الاتحاد الروسي اليوم بشأن ما يجري في سوريا.
غير ان ثمة اموراً أساسية أربعة مختلفة في هذه المقارنة. الأمر الأول هو أن الهند اعتبرت نفسها معنية بما يجري على خلفية تدفق اللاجئين اليها واضطهاد الهندوس، ووصفت ذلك بأنه مأساة انسانية وتصرفت عملياً على أساس هذا التوصيف للأزمة، وهو ما لم يفعله أي من الدول المجاورة لسورية.
الأمر الثاني هو ان السلاح الكيماوي لم يستخدم في بنغلادش رغم حدة الصراع، ولكنه استخدم في سوريا، كما أثبتت بعثة الأمم المتحدة.
الأمر الثالث هو ان هدف الحركة الاحتجاجية في باكستان الشرقية انتقل بسرعة من المطالبة بالاصلاح، الى المطالبة بالاستقلال. على عكس الحركة الاحتجاجية في سوريا التي تتمسك بالوحدة الوطنية وبالسيادة الواحدة وباحترام حقوق المكونات المتعددة للشعب السوري.


أما الأمر الرابع فهو ان باكستان الشرقية في حركتها التمردية على هيمنة باكستان الغربية، افرزت قائداً لها هو مجيب الرحمن (الذي تولى رئاسة بنغلادش بعد ذلك) وهو ما لم تفرزه الثورة السورية حتى الآن. بل ان تشرذم قوى المعارضة السورية وتباين وجهات نظرها، وحتى تقاتلها، أفرز أوضاعاً مأساوية لم تعرفها باكستان الشرقية طوال فترة تمردها. ولكن هذا التمرد لم ينته الا بعد التدخل الهندي المباشر، مما حمل القوات الباكستانية الى الانكفاء والعودة الى القسم الغربي من البلاد.. ليعلن الشيخ مجيب الرحمن استقلال القسم الشرقي باسم بنغلادش.. أي بلاد البنغال.
لم تقم علاقات بين باكستان وبنغلادش حتى عام 1974. في ذلك العام عقدت في مدينة لاهور في باكستان قمة اسلامية كانت مخصصة لقضية القدس. قاطع القمة الرئيس مجيب الرحمن باعتبار انه لا يمكن أن يتوجه الى دولة لا تعترف به. رغم ان دولاً اسلامية عديدة أخرى اعترفت به، من بينها أندونيسيا وماليزيا. وقد انتهز ملوك ورؤساء الدول الاسلامية المناسبة لإجراء مصالحة بين باكستان برئاسة ذو الفقار علي بوتو (والد الرئيسة بنازير بوتو)، وبنغلادش برئاسة مجيب الرحمن. وتم تشكيل وفد توجه جواً من لاهور (عبر الهند) الى دكا (وكان من بين أعضائه وزير خارجية لبنان في ذلك الوقت فؤاد نفاع، وكان المسيحي الوحيد في الوفد). لقد كان حضور مجيب الرحمن حدثاً تاريخياً، إذ جرت المصالحة بين الرئيسين، أي بين الدولتين، وتقبلت كل منهما الأمر الواقع الجديد المستمر حتى اليوم!!
كان يمكن توفير سقوط المليون قتيل. وكان يمكن تجنب الخراب والدمار الذي لا تزال بنغلادش تنوء تحته حتى اليوم، لو أن الرئيس الباكستاني في ذلك الوقت يحيى خان، تصرف بحكمة واستوعب المطالب الاصلاحية في نظام للشراكة بين جناحي الدولة الشرقي والغربي. ولكن الغطرسة حالت دون ذلك. وهو ما يتردد اليوم على نطاق واسع في وصف الحالة المتدهورة في سوريا. ان اعجاب الرئيس الأميركي نيكسون بيحيى خان لا يقل عن اعجاب الرئيس الروسي بوتين ببشار الأسد. كان نيكسون يقارن خان بابراهام لنكولن أحد الأباء المؤسسين للولايات المتحدة وكان يصف رئيسة الحكومة الهندية انديرا غاندي بالعاهرة.. ولا يعرف بمن يشبّه الرئيس بوتين الرئيس الأسد، ولكن من المعروف انه يصف الدول العربية الداعمة للثورة السورية بما هو أسوأ من وصف نيكسون لأنديرا غاندي. والواقع ان الاعجاب الأميركي بالرئيس الباكستاني كان لأسباب سياسية اخرى. فالباكستان كانت في ذلك الوقت البوابة السرية لتحركات وزير الخارجية الأميركية هنري كيسنجر الى الصين. كانت الولايات المتحدة تعتبر أن المدخل للخروج من وحول الحرب في فيتنام هو التفاهم مع الصين. لذلك كانت تسعى للانفتاح سراً عليها، وكانت تخشى من دور سلبي تعطيلي يقوم به الاتحاد السوفياتي. فالكرملين كان سعيداً بأن يرى واشنطن مستنزفة في الوحول الفيتنامية.. كما كانت واشنطن سعيدة بعد ذلك- في أن ترى الاتحاد السوفياتي غارقاً في الوحول الأفغانية. ولذلك كانت الحركة السرية لكيسنجر بين واشنطن وبيجينغ تتم سراً عبر باكستان. كان هدف نيكسون المحافظة على هذه البوابة السرية ليحقق الانتفاح الاميركي على الصين، وليرتب لقاء القمة بين نيكسون وماوتسي تونغ.. ومن ثم ليؤمن خروجاً غير مهين للقوات الأميركية من فيتنام.. من وراء ظهر الكرملين. وقد شكل ذلك قاعدة التفاهم الثلاثي الأميركي الصيني الباكستاني الذي دفع ثمنه مليون بنغالي في باكستان الشرقية!!
واليوم لا يوجد تفسير منطقي لاعجاب الرئيس الروسي بوتين بالرئيس السوري سوى حرص الكرملين على توصيل رسائل اعتراض الى الولايات المتحدة واوروبة بأنه ضاق ذرعاً بتمدد الحلف الأطلسي شرقاً حتى وصل الى الدول المتاخمة لروسيا، وانه لم يعد يطيق صبراً على اتساع النفوذ الأميركي في دول آسيا الوسطى الغنية بالنفط والغاز والتي تشكل الاستثمارات الغربية فيها منافساً للنفط والغاز الروسيين.
لم يكن نيكسون يؤثر باكستان الرئيس خان على الهند. كان يفكر بالصين. ولا يبدو ان بوتين يؤثر سوريا الرئيس الأسد على العالم العربي والاسلامي، ولكنه يفكر بأوروبة الشرقية وآسيا الوسطى.
لا تعرف لعبة الأمم حساباً للدماء والدموع.. في هذه اللعبة يتحول الضحايا الى أرقام.. ويتحول ركام المدن الى جسور تعبر عليها مصالح الآخرين.