عبدالوهاب بدرخان

لسورية مصلحة في laquo;حل سياسيraquo;، لكن ليس الحل الذي يُطبخ حالياً على أسـاس أن الـنظـام قـدّم في laquo;صفـقة الـكيماويraquo; أوراق اعتماده ثانيةً الى القوى الدولية ليستمرّ حـاكماً لسـورية. فـي أسـوأ الأحوال أو في أحسنها لا يمكن أن يوجد حل إلا اذا قـدّم النـظام تنازلات جذرية وملمـوسـة تتعلّق بـبنيـتـه الأمـنـية - الاستخبارية - العســكرية، وأي شـيء أدنـى من هذا المنطق سيكون مجرّد حرث في الخواء.

أقلّ من شهر يفصل عن الموعد الذي حدّدته الأمم المتحدة لعقد مؤتمر laquo;جنيف 2raquo;. هذا موعد مبدئي، لسببين على الأقل: الأول، لأن صيغة الحل التي يطرحها النظام وتؤيدها روسيا وإيران (وقد تحبذها الولايات المتحدة بعد تراخي شروطها) تبدو مسبقاً وصفة لفشل ذريع سريع. والثاني، لأن تمثيل المعارضة يستلزم وقتاً لتفكيك تعقيداته، فمن الواضح أن المشكلة هي مع من يمثلهم laquo;الائتلافraquo; و laquo;المجلس الوطنيraquo;، وإلا لما طُرحت أصلاً فكرة مؤتمر في جنيف. اذ إن بعض laquo;المعارضة الداخليةraquo; المدجّنة مشارك في الحكومة الحالية، أي لا مشكلة بينه وبين النظام، واذا وجدت يمكن حلّها في دمشق. ولا شك في أن هناك معارضين في الداخل لكنهم لم يشاركوا في الثورة ولم يضعوا أنفسهم في سياقها، وليس غبناً لهم ألا يُدعَوا الى جنيف، بل الغبن في أن يُدعَوا ليمثّلوا أدواراً ترسمها لهم أجهزة النظام وإيران التي استقطبت الكثيرين منهم. ومهما اتّهم laquo;الائتلافraquo; (أو laquo;المجلسraquo; أو حتى laquo;تكتل الإخوانraquo;) بالانفصال عن الواقع لأن خريطة تمثيله على الأرض أصبحت ضبابية، إلا أن النواة الحقيقية للثورة بجناحيها المدني (المجالس المحلية) والعسكري (الجيش الحر) ترى في laquo;الائتلافraquo; معبّراً عنها على رغم مآخذها الكثيرة عليه. واذا لم تعطِه تفويضاً كاملاً، فإنه محكوم بـ laquo;ثوابتraquo; جرى تأكيدها مراراً ولا يستطيع أن يحيد عنها.

كان بيان جنيف (30 حزيران/ يونيو 2012) حدد ركيزة الحل السياسي بكلمات أربع، هي: laquo;جهاز تنفيذي بصلاحيات كاملةraquo;، لا تزال المحدد الرئيس لأي حل. طبعاً دار جدال حول تفسير ما تعنيه laquo;الصلاحيات الكاملةraquo;، وعمل النظام وحليفاه الروسي والايراني طوال خمسة عشر شهراً لإثبات أن تنحي بشار الأسد ليس جزءاً من الحل، وبذلوا لأجل ذلك جهوداً لتغيير المعادلة الميدانية لم تكن معارك القصير وحمص سوى الجانب المرئي منها. أما الجانب الآخر السرّي، فكان أعمق تأثيراً، اذ مكّنهم من استثمار اختراقاتهم لمناطق سيطرة المعارضة. ساعدتهم في ذلك الدول المناوئة للنظام (عن قصد أو عن غير قصد)، ففي الوقت الدقيق الحاسم الذي كان يجب أن يُخصّص لتطوير قدرات المعارضة عسكرياً ومالياً (النصف الأول من 2013) أشهرت الولايات المتحدة الشكوك والتردد وضغطت على الدول الصديقة لتغليب التريث وإبطاء التعزيزات النوعية.

في هذا الوقت تحديداً فُتحت كل الخطوط لإدخال مزيد من العناصر والأسلحة والمعدّات ليتمكّن تنظيم laquo;الدولة الاسلامية للعراق والشامraquo; (داعش) من الاعلان عن نفسه جزءاً لا يتجزّأ من laquo;الثورةraquo;. والواقع أنه وجد دروبه بسهولة الى الداخل السوري من أجل هدف واحد هو تخريب الحالة الثورية. فحتى laquo;جبهة النصرةraquo;، التي سبقته الى هناك ونشطت على الجبهات، تغيّر سلوكها كلياً بعدما أصبحت laquo;داعشraquo; منافساً مباشراً على الأرض. وعلى رغم خلاف علني نشب بين زعيميهما (laquo;أبو بكر البغداديraquo; و laquo;أبو محمد الجولانيraquo;)، إلا أنهما بقيا مرتبطين بمرجعية زعيم laquo;القاعدةraquo; أنور الظواهري الذي ألزمهما بالتعايش وعدم التقاتل، فكان أن نشأت حال من التداخل بينهما. وإذ يشير معارضون الى أن مقاتلي laquo;النصرةraquo; (معظمهم سوريون) يواصلون القتال في بعض الجبهات مندمجين مع مقاتلين ذوي انتماءات متعددة، إلا أن وجود laquo;داعشraquo; دفعهم الى تغيير تكتيكاتهم فراحوا ينفردون بعمليات مريبة لا ينسّقون فيها مع laquo;الجيش الحرraquo;، كما في اشتباكهم مع أكراد الحسكة، أو في اعتدائهم على بلدة معلولا المسيحية، وهي مريبة لأنها أساءت الى المعارضة ورتّبت مكاسب خالصة للنظام.

أما مقاتلو laquo;داعشraquo; فتخصصوا منذ دخولهم بالسيطرة على المناطق التي كان laquo;الجيش الحرraquo; وفصائل معارضة اخرى أبعدت عنها سطوة النظام. ثم استهدفوا نشطاء طالما تمنى laquo;شبيحةraquo; النظام التخلّص منهم، وأخيراً أصبحوا يعملون على طرد جنود laquo;الجيش الحرraquo; من بعض البلدات. لم يشاركوا في أي معارك ضد النظام وإن سُجّل لهم دور في عملية اختراق ريف اللاذقية (أوائل آب/ أغسطس الماضي) التي لم يكن laquo;الائتلافraquo; و laquo;الجيش الحرraquo; موافقين عليها بسبب تداعياتها الطائفية. وعلى رغم توسّع رقعة انتشارهم، تجنّبتهم قوّات النظام ومروحيّاته ومدفعيته، لأن الدور التخريبي البشع الذي يقومون به يطابق تماماً ما يمكن أن يقوم به النظام نفسه، كما لو أن أحد ضباط أجهزته يوجّه تحركاتهم. من ذلك، مثلاً، أن محافظة الرقّة التي كانت الأكثر ولاءً للنظام الى شهور قليلة مضت، ثم انقلبت بعدما أصبحت محاطة بمناطق منخرطة في الثورة، تستعيد اليوم هذا الولاء لكن تحت سيطرة laquo;داعشraquo;، ومع أنها تحوّلت لفترة ملاذاً لعائلات معارضة جاءت من مدن وبلدات محاصرة، إلا أن ارهابيي laquo;داعشraquo; جعلوها منطقة طاردة للمعارضين بعدما بالغوا في اعتقال واستهداف الكثيرين منهم كما لو أنهم ينفذون أوامر مصدرها دمشق.

لا غموض لدى قيادة laquo;الائتلافraquo; وسائر المعارضين، فالظاهرة التي تشكّلها laquo;داعشraquo; وأخواتها صنّعها النظام تصنيعاً بمساهمة ايرانية وعراقية ومشاركة روسية (بعناصر شيشانية)، ما دفع أيضاً جهات خارجية اخرى الى دخول بازار الاختراقات أقلّه لتعرف مَن هناك وما الذي يجري. فالنـظامان الـسوري والايراني خبرا جيداً تنظيم laquo;القاعدةraquo; وتشـعّـباته منذ اســتضافا فلولـه بعد غزو افغانستان 2002 وخصوصاً باستخدامهما عناصره بعد الغزو الاميركي للعراق في 2003. وقد أدرك النـظـامـان، فـي أقل تقدير، أن تنظيم laquo;القاعدةraquo; وصفة تخـريب جاهـزة، ولا داعي لإرشاده أو توجيهه، بل يكفي زرعه وتأمين بعض التسهيلات له، وهو كفيل في ما بعد بالقيام بما يلزم لأن لديه أسلوب عمل واحداً: السيطرة حيث لا توجد سلطة دولة، والانتقال فوراً الى اقامة إمارة اسلامية. وهكذا أقحم النظام جسماً غريباً على المجتمع السوري في المناطق التي خسرها، ووجدت قوى المعارضة نفسها أمام حربين مفروضتين عليها في آن، فإمّا محاربة النظام فيما يقضم الارهابيون مواقعها ومكاسبها، وإمّا محاربة تنظيـم laquo;الـقاعدةraquo; فيـما يـسـتعيد النظام مواقعه منها.

لا شك في أن التركيز السياسي - الاعلامي من جانب النظام وحلفائه على الفصائل الجهادية المتطرّفة يرمي الى شيطنة شياطين تولّوا إنزالها في مهمة تتعلّق باستدراج حلّ سياسي يعرفون أن ظروفه لم تنضج بعد. ولا يعني مصطلح laquo;جنيف 2raquo; الشائع سوى أن المؤتمر المزمع سيخضع بالضرورة لمعايير مختلفة إن لم تكن معاكسة لـ laquo;جنيف 1raquo;، وذلك بناء على المعطيات الجديدة على الأرض. أي أن النظام وحلفاءه يطرحون على المعارضة خيارين: إما العودة الى مظلّته والولاء له، وإما الخضوع لحال افغانية - صومالية مرشحة للتفاقم لأن النظام سيعرف كيف يستغلّها كلياً ضد المعارضة. ما يعني أن laquo;جنيف 2raquo; لن يسعى عملياً الى laquo;حكومة انتقاليةraquo; أو الى نقلٍ للسلطة، بل الى ابتزاز آخر: إما النظام وإما laquo;داعشraquo;. قد تجد الدول الكبرى أن الخيار واضحٌ أمامها بفعل الأمر الواقع هذا، ولا يهمها حقاً أن هذا هو الحل السياسي المنشود أم لا. أياً تكن الظروف، فلا مصلحة للشعب السوري في laquo;جنيف 2raquo; طالما أنه سـيكرّس الاهانة التي تحمّلها ورفضها طوال خمسين عاماً.