يوسف نور عوض

كانت العلاقة بين الدول المستعمرة والدول التي خضعت للاستعمار علاقة واضحة المعالم، غير أنه وبعد خروج الاستعمار من مختلف الدول، بدأنا نسمع تعبيرات مثل التآمر والأهداف السرية وما إلى ذلك، وليست تلك مجرد أوهام بل هي حقيقة أكيدة، ذلك أن الدول التي كانت تقود الحركة الاستعمارية أصبحت الآن تتحكم في المؤسسات الدولية وتفرض إرادتها من خلالها، وأوضح مثال على ذلك مجلس الأمن الذي تمتلك فيه خمس من الدول الكبرى حق النقض، ويعني ذلك أنه لا يمكن أن يمر قرار من دون أن توافق عليه هذه الدول الخمس، ولقد حاولت دول العالم الثالث من قبل أن تصلح شان مجلس الأمن، لكنها فشلت فشلا ذريعا، والآن هي تخوض تجربة جديدة مع ما يسمى بمحكمة الجنايات الدولية التي سنتوقف عندها في هذا المقال.
كما هو معلوم فأن هذه المحكمة تأسست عام 2002بغرض محاكمة الذين يقومون بأعمال الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، ويعتبر دور المحكمة مكملا لدور المحاكم الوطنية، ما يجعل دورها يبدأ عندما تفشل المحاكم الوطنية في تحقيق العدالة أو ممارسة سلطتها كما ينبغي . وتستطيع هذه المحكمة النظر فقط في الجرائم التي وقعت بعد تاريخ إنشائها في عام ألفين واثنين ودخول قانون روما حيز التنفيذ.
ومن الناحية النظرية تحظى هذه المحكمة بدعم عالمي، لكن كثيرا من الدول مثل الهند والصين والولايات المتحدة وروسيا ما زالت ترفض التوقيع على ميثاقها، في حين أن مئة وواحد وعشرين دولة وقعت على الميثاق وتسهم في تمويل المحكمة.


وقد فتحت محكمة الجنايات الدولية منذ إنشائها قضايا في أوغندا الشمالية وجمهورية الكونغو الديموقراطية وجمهورية أفريقيا الوسطى، ودارفور، كما أصدرت مذكرات اعتقال بحق عدد من القادة الأفارقة، وذلك ما جعل بعض الدول تتهم هذه المحكمة بالتحيز والعمل من أجل تحقيق أغراض سياسية.
وتشهد محكمة الجنايات الدولية في هذه الآونة مواجهة بينها وبين القادة الأفارقة الذين عقدوا مؤتمرا خاصا في أديس أبابا لدراسة علاقة بلادهم بهذه المحكمة، وقد طالبت القمة الأفريقية بضرورة وقف الملاحقات القضائية ضد الرئيس السوداني عمر حسن البشير والرئيس الكيني lsquo;كنياتاrsquo;. وقالت القمة لقد أصبح واضحا أن المحكمة لا تلاحق أحدا سوى القادة الأفارقة ، وعقب هذه القمة قال وزير خارجية إثيوبيا lsquo;توادروس أدهانومrsquo; إذا لم توافق المحكمة على طلب القمة ، فإن على الرئيس الكيني أن ينتظر مدة عام حتى يصله قرار من المحكمة.
وكانت محكمة الجنايات الدولية قد اتهمت الرئيس الكيني ونائبه lsquo;روتوrsquo; بارتكاب جرائم قتل خلال الانتخابات التي جرت في عام ألفين وسبعة، وقد بدأت محكمة الجنايات محاكمة نائب الرئيس، وتعتزم محاكمة الرئيس، وعلى الرغم من رفض الرئيس للاتهامات الموجهة ضده فإن المحكمة تعتزم محاكمته خلال الشهر المقبل. وتقول دوائر المحكمة إنه إذا رفض الرئيس lsquo;تالكينيrsquo; المثول أمامها فإنها ستتخذ قرارا باعتقاله، ولكنها لم تحدد كيفية تنفيذ هذا القرار إذا اتخذ، وفي جميع الأحوال فإن الدول الغربية لا تريد الوصول إلى هذا المستوى حتى لا تتعقد الأمور وخاصة مع الدول الأفريقية بشكل أكبر، والتساؤل هنا هو إذا كانت الأمور بين المحكمة الدولية وأحد الرؤساء الأفارقة فلماذا تقحم الدول الغربية نفسها في هذه القصية إذا لم تكن فعلا تستهدف تسييس عمل محكمة الجنايات الدولية .\
وكان رئيس وزراء إثيوبيا lsquo;هيلا مريم ديسالنrsquo; قد قال في أعقاب انتهاء القمة، نريد أن تكون كلمتنا مسموعة وواضحة المعالم.
وتتجه القمة الأفريقية الآن إلى الاتصال بمجلس الأمن من أجل التدخل لتأجيل أو إلغاء الإجراءات القانونية المتخذة ضد الرؤساء الأفارقة. ويلاحظ أن الرئيس السوداني عمر حسن البشير لا يرفض قرار المحكمة فحسب ، بل هو يتحدى هذه المحكمة بالسفر خارج بلاده، وذلك ما أوجد تباعدا بينه وبين الغرب. ويرى المسئولون في السودان أنه لا يجوز في جميع الأحوال أن توجه اتهامات مثل هذه إلى رئيس دولة وهو في قمة السلطة، لأنه ليس هناك دليل على أن الرئيس ارتكب جرائم حرب أو شارك فيها، ولا يعني ذلك أن الجرائم لم ترتكب، غير أنه يجب ألا تحمل مسئوليتها إلى الرئيس، لأن أمورا كثيرة تحدث في نطاق الدولة وليس من الضروري أن يكون الرئيس طرفا فيها أو حتى على علم بها، وبالتالي يجب عدم تحميله المسئولية لمجرد أنه في سدة الرئاسة.


وعلى الرغم من أن اعتقادا راج قبل انعقاد القمة بأنها ستتخذ قرارا بالانسحاب من محكمة الجنايات الدولية، فإن عددا كبيرا من الدول الأفريقية الموقعة على اتفاقية المحكمة وعددها أربع وثلاثون دولة عارضت هذا الاتجاه، وهذا ما جعل القمة تتراجع عن قرار الانسحاب. وكانت جماعات حقوقية قد نصحت القمة بألا تنسحب من محكمة الجنايات الدولية لأن ذلك سوف يتيح الفرصة لمرتكبي الجرائم الحقيقية الإفلات من العقاب، وفي هذا السياق قال رئيس الوزراء الإثيوبي إن الدول الأفريقية ليست في موقف مواجهة مع محكمة الجنايات الدولية .
ومن جانبها قالت منظمة lsquo;هيومان رايتس ووتشrsquo; يجب ألا يكون هناك أحد فوق القانون كما يجب ألا توفر الدول الحماية لمرتكبي الجرائم الحقيقية.
ويبدو مما ذكرناه أن هناك مواجهة حقيقية بين القادة الأفارقة ومحكمة الجنايات الدولية، وإذا كان القادة الأفارقة لم يستجيبوا للدعوة التي تبناها السودان بالانسحاب من هذه المحكمة، فإن ذلك لا يعني أنهم راضون عن أدائها، ذلك أن معظم الاتهامات توجه إلى الأفارقة ولا تستطيع محكمة الجنايات الدولية أن توجه اتهامات لقادة دول مثل الولايات المتحدة أو فرنسا أو ألمانيا، وقد رأينا ما حدث في الحرب ضد صدام حسين خلال احتلال العراق.
ولا يعني أن التحيز هو فقط لصالح الدول الكبرى، إذ نحن نتابع الآن المآسي التي تجري في سورية والعراق ومصر، فهل تحركت محكمة الجنايات الدولية من أجل توجيه الاتهام لأي من زعماء هذه الدول؟
وفي جميع الأحوال لا نستطيع أن ننكر أننا نستطيع أن نرى فداحة الجرائم التي ترتكب في كثير من البلدان، ولكن المطلوب دائما ليس فقط توجيه اتهام لأحد رموز الحكم لتنتهي المشكلة، ذلك أن الرموز قد لا يكونون مسئوولين بصورة مباشرة عما يجري، فهل يكفي توجيه الاتهام إليهم لإنهاء المشكلة؟ وهنا نتخذ لذلك مثالا مايجري في دارفور، إذ لا ينكر أحد فداحة الجرائم التي ترتكب هناك، ولكن هل هناك دليل على أن الرئيس السوداني عمر البشير شارك بصورة مباشرة في تلك الجرائم؟ إذن لماذا توجه الاتهامات إلى الرئيس البشير؟ وأنا أعلم شخصيا أن هناك الكثيرين ممن لا تعجبهم مثل هذه الآراء ولكني أطالبهم بذلك من أجل أن يكونوا منصفين في تحقيق العدالة لشعبهم .
وفي جميع الأحوال أعتقد أن مشكلة تحقيق العدالة ستظل قائمة لأن معظم الدول في عالمنا lsquo;تسيسprime; القضاء وتجعله غير قادر على اتخاذ القرارات السليمة وبالسرعة المطلوبة، وهذا هو أساس المشكلة، لأنه لو كان القضاء حرا ويستطيع أن يتعامل مع كل القضايا، فهو ليس بحاجة إلى الاستعانة بالقضاء العالمي. وكما أسلفنا فإن محكمة الجنايات الدولية لا تريد أن تتدخل في القضايا التي تحسم على المستوى المحلي، ولكن أيضا بما أن هذه المحكمة مؤسسة تخضع لنفوذ الدول الكبرى، فستظل في قراراتها lsquo;مسيسةrsquo; مثل قرارات مجلس الأمن، وهكذا ستظل المسافة واسعة بين الدول التي تفتقر إلى النفوذ الدولي والدول التي تريد للمؤسسات الدولية مثل هذه المحكمة أن تكون أداة طيعة لنفوذها.
lsquo; كاتب من السودان